في تطور دراماتيكي يعيد خلط أوراق المعركة الروسية الأوكرانية، فتحت كييف جبهة جديدة باستهدافها شبه جزيرة القرم، قلب النفوذ الروسي في البحر الأسود، والتي تُعتبر مصدر "الهيبة الجيوسياسية" التي بنى عليها الكرملين جزءًا كبيرًا من خطابه منذ ضمها عام 2014.
وزارة الدفاع الروسية، التي قلّما تعترف بهجمات مؤثرة، أصدرت بيانًا لافتًا خلال الأيام الماضية، أعلنت فيه إسقاط صاروخ من طراز "شاردوم" كان يحلق فوق جزيرة القرم.
البيان الروسي، وإن كان مُقتضبًا إلا أنه حمل ما يكفي لإشعال المخاوف والقلق، والتي كشفت عنها الصحف الروسية، والتي أكدت أن التحركات الجديدة تأتي بالتزامن مع تكثيف الضربات الجوية الأوكرانية بالطائرات المسيرة، التي باتت تصل إلى عمق القرم بوتيرة غير مسبوقة.
وبحسب مراقبين، تعتبر الهجمات الأوكرانية الأخيرة ليست مجرد رسائل عابرة، بل تشير إلى تحول نوعي في استراتيجية كييف؛ فبعد سنوات من المعارك في الشرق، بات واضحًا أن القيادة الأوكرانية تحاول نقل المعركة إلى عقر الدار الروسية، وتحديدًا إلى القرم، التي تعتبرها موسكو خطًّا أحمر لا يُمس.
ويرى الخبراء، أن القرم أصبحت جزءًا لا يتجزأ من المنظومة الدفاعية الروسية، ولا تمثل فقط ورقة نفوذ، بل قاعدة متقدمة يصعب المساس بها، وأن كييف تعتمد على تكتيكات إعلامية أكثر منها تغيرات واقعية في موازين القوى، خاصة بعد تراجع الدعم الغربي عقب تولي دونالد ترامب الحكم.
وأشار الخبراء في تصريحات خاصة لـ"إرم نيوز" إلى أن أي تسوية سياسية مستقبلية ستصطدم بعقبة "الملف الإقليمي"، إذ لن تتنازل موسكو عن القرم، في حين تجد كييف نفسها مضطرة للقبول بالتفاوض مع تآكل أوراقها الميدانية والدبلوماسية.
بدايةً، قال نبيل رشوان، المحلل السياسي المختص في الشؤون الروسية، إن شبه جزيرة القرم تُعد من وجهة النظر الروسية "أرضًا أصيلة"، تم نقل تبعيتها إداريًّا إلى أوكرانيا عام 1954 خلال الحقبة السوفيتية، عندما لم تكن هناك حدود فاصلة بين الجمهوريات.
وأشار رشوان، في تصريحات خاصة لـ«إرم نيوز» إلى أن ضم موسكو للقرم في عام 2014 أعادها إلى السيادة الروسية وفقًا للدستور الروسي، وهو ما يجعل من الصعب ـ إن لم يكن مستحيلًا ـ لأي قيادة روسية التنازل عنها، حتى في ظل عدم اعتراف عدد من الدول، بما فيها أطراف صديقة لموسكو، بشرعية هذا الضم.
قواعد عسكرية روسية
وأضاف أن شبه الجزيرة تحولت خلال السنوات الماضية إلى قاعدة استراتيجية متقدمة، حيث ضخت موسكو استثمارات عسكرية هائلة، شملت إنشاء قواعد بحرية وجوية متطورة، ونشر أنظمة دفاعية متقدمة، فضلًا عن مشاريع ربط مباشر مع العمق الروسي، مثل: جسر كيرتش، وهو ما يجعل القرم جزءًا لا يتجزأ من البنية الدفاعية الروسية، لا مجرد منطقة نفوذ تقليدية.
وشدد رشوان على أن الحديث المتكرر عن كسر الهيبة الروسية في القرم من جانب أوكرانيا، يعد تضخيمًا إعلاميًّا، رغم تنفيذ كييف هجمات بالطائرات المسيّرة في المنطقة.
ولفت إلى أن روسيا لا تزال تحتفظ بسيطرتها على نحو 20% من الأراضي الأوكرانية، رغم المساعدات الغربية الكبيرة التي تلقتها كييف، خصوصًا خلال إدارة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن.
ورأى رشوان أن تغير المشهد السياسي الأمريكي بعد تولي الرئيس دونالد ترامب، انعكس على موقف واشنطن من الحرب؛ ما أفقد كييف الكثير من أوراق الضغط.
وأكد المختص في الشؤون الروسية، أن خيار التفاوض بات ضرورة ملحة بالنسبة لأوكرانيا، للحيلولة دون فقدان مزيد من الأراضي، مؤكدًا في الوقت ذاته أن مسألة الأراضي ستظل التحدي الأكبر أمام أي تسوية سياسية مقبلة.
اختراق أوكراني للقرم
من جانبه، رأى ديميتري بريجع، مدير وحدة الدراسات الروسية في مركز الدراسات العربية الأوراسية، أن التقديرات التي تتحدث عن اختراق أوكراني وشيك للقرم تحمل طابع التهويل الإعلامي أكثر من كونها انعكاسًا لواقع عسكري ملموس.
وأوضح بريجع، في تصريحات لـ"إرم نيوز"، أن روسيا تسيطر بإحكام على شبه الجزيرة، سواء من حيث البنية العسكرية المتطورة، أو الانتشار الأمني، أو حتى الانتماء الشعبي، مشيرًا إلى أن القرم لم تعد مجرد منطقة استراتيجية، بل أضحت مكونًا رئيسًا في المنظومة الدفاعية الروسية.
وشدد على أن أي محاولات لاختراق هذه المنظومة تقابَل بردع حاسم، مؤكدًا أن ما تروّج له كييف من "تحول ميداني" لا يتجاوز كونه مناورة سياسية وإعلامية، خاصة في ظل عدم استخدام موسكو لكامل قدراتها حتى الآن، وهو ما يجعل الخيارات الأوكرانية محدودة، رغم استمرار الدعم الغربي.