لم يعد السؤال المطروح في مناطق سيطرة ميليشيا الحوثي يتمحور حول حجم التأييد الشعبي للميليشيا، بقدر ما بات يتركز على حدود الاعتراض الممكن، وما إذا كان التعبير عن التذمر لا يزال خيارا آمنا.
ففي بيئة تُدار بمنطق أمني صارم، لم تعد الطاعة دليلا على القبول، ولا الصمت مؤشرا على الرضا، بل تحولا إلى آلية بقاء في مواجهة سلطة لا تحتمل أي هامش للاختلاف.
وبين خطاب رسمي يتحدث عن "تماسك الجبهة الداخلية" وواقع اجتماعي مثقل بالإنهاك والضغوط المعيشية، تتكشف ملامح تفكك بطيء في العلاقة بين الحوثيين والمجتمع الذي يحكمونه.
مصادر محلية وإعلامية تؤكد لـ"إرم نيوز" أن حالة السخط الاجتماعي لم تعد محصورة في أطراف بعيدة أو بيئات خصومة تقليدية، بل بدأت تتغلغل في عمق المناطق التي شكلت تاريخيا قاعدة الاستقرار الاجتماعي للحوثيين، وسط شعور متنامٍ بأن الحكم القائم لم يعد يعكس مصالح المجتمع، بل يفرض نفسه عليه بالقوة.
عند سيطرة الحوثيين على صنعاء العام 2014، استفادت الميليشيا من خليط معقد من المظلومية السياسية، والسخط الشعبي على السلطة المركزية، إضافة إلى تفاهمات قبلية مؤقتة. في تلك المرحلة، تشكل ما يشبه عقدا اجتماعيا غير مكتوب، قوامه ضبط الفوضى وتوفير حد أدنى من الأمن مقابل القبول أو الحياد المجتمعي.
غير أن هذا العقد بدأ يتآكل تدريجيا مع تحوّل الحوثيين من قوة صاعدة إلى سلطة مغلقة. توسّعت الجبايات، وتكرّس التجنيد القسري، وتراجع دور الشيوخ والوجهاء التقليديين، ليحل محلهم نمط حكم يقوم على الإخضاع أكثر من الشراكة. ومع هذا التحول، فقدت العلاقة بين السلطة والمجتمع بعدها التمثيلي، وتحولت إلى علاقة قائمة على الامتثال بالإكراه.

في هذا السياق، يقول الباحث السياسي اليمني المتخصص في الشؤون الاستراتيجية سالم الحيمي، إن ميليشيا الحوثي "لم تعد تمتلك أي شكل من أشكال العقد الاجتماعي الحقيقي"، موضحا في حديثه لـ "إرم نيوز" أن "العقد الاجتماعي يقوم في جوهره على الرضا المتبادل والشرعية المستمدة من القبول الشعبي، وهو ما انتفى كليا في مناطق سيطرة ميليشيا الحوثي".
ويضيف الحيمي أن "الولاء لم يعد يُبنى على الإيمان بالمشروع الحوثي أو ما يُسمى بالمسيرة القرآنية، بل على الخوف من البطش والملاحقة"، لافتا إلى أن كثيرا من السكان باتوا يتجنبون التعبير عن آرائهم علنا، وتراجعت حتى المظاهر الرمزية للرضا الطوعي، مثل المشاركة في الفعاليات أو الأنشطة التعبوية.
يلعب نظام "المشرفين" دورا محوريا في تسريع تفكك العقد الاجتماعي الحوثي. فهؤلاء، الذين يمثلون الذراع التنفيذية للميلشيا في المحافظات والمديريات، باتوا في نظر كثير من السكان رمزاً لسلطة مفروضة من خارج السياق الاجتماعي المحلي.
وبحسب مصادر خاصة تحدثت لـ"إرم نيوز"، فإن المشرفين غالبا ما يتجاوزون البنى القبلية والإدارية التقليدية، ويتدخلون مباشرة في شؤون القضاء والأوقاف والجبايات والتعيينات، دون امتلاك رصيد اجتماعي أو معرفة بطبيعة المجتمعات التي يعملون داخلها. وتقول المصادر إن "المشرف لا يُنظر إليه كمسؤول إداري، بل كأداة قسرية، ما يجعل أي احتكاك معه مولدا مباشرا للاحتقان".
ويرى الحيمي أن نظام المشرفين "يمثل اليوم أحد أكبر عوامل التآكل الاجتماعي والسياسي في مناطق الحوثيين"، موضحا أن معظمهم "لا يمتلكون كفاءة إدارية أو خلفية مؤسسية، بل يعملون كأدوات هيمنة طائفية داخل مؤسسات الدولة والمجتمع".
لا يتخذ هذا التفكك شكلا انفجاريا، لكنه يظهر في سلوكيات يومية ترصدها مصادر محلية متطابقة في صنعاء وعمران وذمار وحجة. من أبرز هذه المظاهر تراجع القبول بالتجنيد، حيث تلجأ عائلات إلى إخفاء أبنائها أو دفع مبالغ مالية لتفادي إرسالهم إلى الجبهات، في مؤشر واضح على تحوّل العلاقة من "واجب تعبوي" إلى عبء اجتماعي مرفوض.
ويشير سالم الحيمي إلى أن سياسات التجنيد القسري "حوّلت ما كان يُسوّق كجهاد مقدس إلى ما يشبه خطف الأبناء باسم الدين"، مؤكدا أن عائلات كثيرة باتت تتجنب حتى إرسال أطفالها إلى المدارس خوفا من استهدافهم عبر حملات "التعبئة المدرسية".
كما تتكرر النزاعات حول الأراضي والأوقاف والممتلكات، وغالبا ما تُحسم بقرارات تصدر عن مشرفين أو جهات أمنية، ما يعمّق الشعور بالغبن. ويقول مصدر إعلامي يمني لـ"إرم نيوز" إن "الخلافات التي كانت تُحل عبر العرف والتحكيم، باتت اليوم تُدار بعقلية أمنية، الأمر الذي يراكم الغضب حتى داخل البيئات التي كانت أقرب لميليشيا الحوثي".
حتى محافظة صعدة، المعقل التاريخي للجماعة ومنطلقها الأول، لم تعد مساحة ولاء مطلق كما يصوّر الخطاب الرسمي. فبحسب مصادر خاصة، تشهد المحافظة حالة تململ داخلي متزايد، تُدار بتشدد أمني واضح لمنع خروجها إلى العلن.
ويؤكد الحيمي أن ما يجري في صعدة "يشير إلى تآكل البنية النفسية للمجتمع الحاضن للحوثيين"، موضحا أن المظلومية الاقتصادية والاجتماعية بدأت تتفوق على المظلومية التاريخية التي غذّت الخطاب الحوثي لسنوات. حتى العائلات التي فقدت أبناءها في الجبهات، لم تعد ترى في "الشهادة" رمزية مقدسة، بل "خسارة عبثية في حرب بلا أفق".
ويضيف أن الفوارق الطبقية بين قيادة تعيش في ترف، وقواعد اجتماعية منهكة، باتت أكثر وضوحا، وأن الدعاية الدينية لم تعد قادرة على إخفائها.
رغم هذا التآكل الواضح في القبول الاجتماعي، لا يترجم السخط إلى احتجاجات واسعة. ويعزو مراقبون ذلك إلى القبضة الأمنية المشددة، وحالة الإنهاك التي خلّفتها سنوات الحرب، إضافة إلى غياب أي أفق سياسي قادر على تحويل التذمر إلى مسار منظم.
ويرى الحيمي أن هذا الصمت "لا يعكس استقرارا، بل خوفا عميقا وغيابا كاملا للبدائل"، مؤكدا أن ما يسميه الحوثيون استقرارا هو في حقيقته "استقرار المقابر"، في ظل تفكيك النقابات، وتكميم الإعلام، وتهجير الناشطين، وتجريم أي شكل من أشكال الاعتراض.
أزمة حكم لا أزمة مواجهة
في المحصلة، يبدو أن التحدي الأعمق الذي يواجه الحوثيين اليوم لا يكمن في الضغوط الخارجية أو المواجهات العسكرية، بل في علاقتهم بالمجتمع الذي يحكمونه. فسلطة تفقد القبول الاجتماعي، وتستعيض عنه بمنظومة مشرفين وقبضة أمنية واقتصاد جباية ديني، تتحول تدريجيا إلى عبء على المناطق التي تسيطر عليها، وتحتاج إلى مزيد من القمع للحفاظ على الحد الأدنى من الطاعة.
وفي مناطق سيطرة الحوثيين، لم تعد المشكلة في غياب الولاء، بل في انعدام الرضا. ومع استمرار هذا التفكك الصامت، تتعاظم كلفة الحكم بلا عقد اجتماعي، في مجتمع منهك، صامت، لكنه غير مقتنع بكل ما يحيط به.