ربما تكون كلمة "الفراغ" هي الأنسب لوصف الوضع السياسي في لبنان عام 2023، فكرسي الرئاسة استمر شاغرًا، منذ 31 تشرين الأول/أكتوبر العام 2022، وهو تاريخ انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون.
واستمرت حالة الجمود وانعدام الأفق والحلول السياسية والاقتصادية والمالية، في ظل حكومة تصريف أعمال، يقاطع جلساتها نصف وزرائها بحجة الشغور الرئاسي، ومجلس نيابي متعطل عن التشريع بسبب رفض قوى المعارضة المشاركة في جلسات تشريعية تعتبرها مخالفة للدستور.
أما إدارات ومؤسسات الدولة، فتدار بالتكليف والإنابة، أو من خلال التمديد لقياداتها.
وبعد عدة جلسات برلمانية فشلت في انتخاب رئيس للبنان، بقي "الثنائي الشيعي" المتمثل بحزب الله وحركة أمل، مصرًا على ترشيح رئيس تيار المردة الوزير السابق سليمان فرنجيه، بينما قررت قوى المعارضة التخلي عن ترشيح رئيس حركة الاستقلال النائب ميشال معوض، لصالح التقاطع مع التيار الوطني الحر على اسم الوزير السابق جهاد أزعور.
وأدى هذا الاصطفاف إلى نوع من "التعادل السلبي" الذي ترك الأمور في المربع الأول، وباتت معظم النخب السياسية مقتنعة بأن "لبننة" الاستحقاق الرئاسي شبه مستحيلة حاليًا، وأن الملف سيصبح أولوية إقليمية فور وضع بنود اتفاق ما بعد حرب غزة.
وفرض هذا الواقع تلاقي المملكة العربية السعودية، والولايات المتحدة الأمريكية، وقطر، ومصر، مع فرنسا، بإطار ما يُعرف باللجنة الخماسية الدولية المعنية بالشأن اللبناني، (اللجنة الخماسية لأجل لبنان) على التسويق لترشيح مرشح ثالث، وذلك بعد سقوط مبادرة باريس الداعية لانتخاب فرنجيه رئيسًا للبنان، مقابل تعيين السفير السابق نواف سلام رئيسًا للحكومة.
وفي نهاية العام 2023، شهد لبنان حراكًا مكثفًا لمندوبين دوليين بهدف حل الملف الرئاسي، إذ ينتظر عودة الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان، والموفد القطري جاسم بن فهد آل ثاني، إلى بيروت.
وبحسب مراقبين، سيطرح الموفد القطري 3 أسماء، هي: النائب نعمة أفرام، وقائد الجيش الممدد له في منصبه، مؤخرًا، جوزف عون، ومدير عام الأمن العام بالإنابة إلياس البيسري، الذي تعتقد الدوحة أنه يشكل مخرجًا للأزمة، باعتبار أن حزب الله لا يعارضه.
وعلى مدى عام 2023، ساد المشهد الأمني عددًا من التوترات المتنقلة في المناطق، وأخذت منحى طائفيًا وسياسيًا ومناطقيًا، أسفرت عن سقوط قتلى وجرحى، ما أدى إلى عودة الحديث عن الفيدرالية كطرح لإدارة العلاقات بين الطوائف بعيدًا عن الحروب.
وشهد صيف عام 2023، اشتباكات مسلحة دامية بين حركة فتح ومجموعات متشددة في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين (صيدا جنوب لبنان)، وجرت محاولات فاشلة لاستدراج الجيش اللبناني للدخول بالمعركة، بعد استهداف مراكز له في محيط المخيم، ما أدى إلى سقوط عدد من الجرحى.
وشارف العام على نهايته مع اشتعال جبهة الجنوب بين ميليشيات حزب الله والجيش الإسرائيلي، بعد قرار الميليشيات مساندة ودعم جبهة غزة، في ظل تهديدات إسرائيلية بتوسيع رقعة الحرب إذا لم تتراجع الميليشيات مجددًا إلى منطقة شمال الليطاني، وتطبيق القرار الأممي 1701، الذي أنهى حربًا بين ميليشيات حزب الله وإسرائيل العام 2006.
وتزايد الحديث في الأوساط السياسية اللبنانية عن مخاوف من توسع رقعة الحرب، مع إطلالة مطلب دولي بتعديل القرار 1701 ليمثل مخرجًا للتوتر الراهن على الحدود جنوب البلاد.
وانتهت ولاية حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، في نهاية تموز/يوليو عام 2023، وخرج من مصرف لبنان في الأول من آب/أغسطس.
وسلامة هو من وضع الهندسات المالية التي رأى كثيرون في البلاد أنها أدت إلى ضياع أموال اللبنانيين، وأوصلت غالبية الشعب اللبناني إلى خط الفقر، بعدما انهارت الليرة، وخسرت 98% من قيمتها.
وبعد مذكرات توقيف بحقه، وتعرضه لسلسلة ملاحقات قضائية محلية وأوروبية، أفلت سلامة من المحاسبة، وهو ما قوبل بجدل كبير واتهامات بالفساد شكلت آلية عمل لمنظومة سياسية اقتصادية قضائية، كان سلامة جزءاً منها.
وطفا إلى واجهة المشهد اللبناني، في عام 2023، ملف اللاجئين السوريين الذين باتوا يشكلون عبئًا إضافيًا على الاقتصاد اللبناني.
وتصاعدت المواقف بين مطالب بعودتهم بعد استقرار الوضع الأمني في كثير من المناطق السورية، ورافض لتلك العودة قبل توفير "الضمانات" الأمنية لها.
وصار ملف النازحين السوريين زاحداً من القضايا التي يختلف حولها اللبنانيون بين من يرى أن على البلاد أن تواصل احتضانهم، ومن يرى أن هناك "مؤامرة دولية" في هذا المجال، وهو ما سبق أن عبر عنه وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال، بسام المولوي، حين قال إن النزوح السوري يهدد ديمغرافية لبنان.
وعلى الصعيد المعيشي، رفع لبنان الدعم عن الخدمات العامة التي تضاعفت أسعارها مئات المرات، حتى صار دخل الغالبية من اللبنانيين لا يسمح بتأمين الحد الأدنى منها.
وازداد التعامل بالدولار في كل القطاعات، وأصبح الاقتصاد مدولرًا، كما نهش الغلاء الفاحش جيوب اللبنانيين، ما دفع البنك الدولي إلى التحذير من تنامي اقتصاد نقدي بالدولار، بعدما بات يزيد من عمليات غسل الأموال والتهرب الضريبي في بلد يرزح تحت أزمة اقتصادية متفاقمة منذ العام 2019، صنفت من بين أشد 3 أزمات في العالم.
إلا أن الأمر الذي يحتمل بعض الإيجابية، هو ثبات سعر صرف الدولار، وإن كان مرتفعًا، عند عتبة الـ90 ألف ليرة في الثلثين الأخيرين من العام، دون أن يُشكل انتقال حاكمية مصرف لبنان من رياض سلامة إلى وسيم منصوري أي خضة مالية.
وسط هذا المشهد الحالك، لمع حدث ثقافي قدم جرعة فخر واعتزاز للشعب اللبناني، ففي سابقة تاريخية انتُخب الكاتب الفرنسي اللبناني، أمين معلوف، أمينًا عامًا دائمًا للأكاديمية الفرنسية.
ويعد انتخاب معلوف سابقة في تاريخ أعلى صرح ثقافي في فرنسا، فهو أول شخص من أصل غير فرنسي يشغل هذا المنصب مدى الحياة.
ومعلوف (74 عامًا) هو أحد وجوه الروايات التاريخية المستلهمة من الشرق، وركز في أعماله على مسألة تقارب الحضارات، وحاز على جائزة "غونكور" الأدبية الفرنسية العام 1993 عن روايته "صخرة طانيوس" (التي تدور أحداثها في الجبال اللبنانية خلال طفولته).
ويبدو لبنان على مشارف عام 2024 مراوحًا في خضم الشلل السياسي والاقتصادي، وتائهًا في خريطة الإصلاحات المعطلة.
وأدت الأزمات اللبنانية الحادة إلى تدهور الأوضاع الاجتماعية والإنسانية، حيث فقدت العديد من الأسر مصدر رزقها، وارتفعت معدلات الفقر والبطالة والهجرة بشكل كبير.. فهل يملك المجتمع اللبناني المنهك مقومات الصمود والنهوض مجددًا لتجاوز هذه الفترة القاتمة من تاريخه؟