تتفاعل، في سوريا، قضية الموظفين المفصولين، بشكل يومي، مع توالي قوائم التسريح أو التجميد لآلاف العاملين الذين يجدون أنفسهم بلا مصدر دخل "على قلّته"، ما ينذر بتحويل هذا الملف إلى "قنبلة موقوتة" في بلاد منكوبة عاجزة عن تدوير عجلة الإنتاج حتى اليوم.
العديد من الخبراء حذروا من القرارات "غير القانونية" التي تنتهجها حكومة الشرع، والتي قد ترمي مئات آلاف السوريين إلى قاع الفقر، رغم ضحالة الرواتب التي يقبضونها، منبهين إلى أن الموجة الواسعة من التسريحات - سواء كانت محقة أم لا - فإنها ستشعل فتيل أزمة سيكون من شأنها أن تهدد استقرار البلاد الخارجة من حرب طاحنة استمرت 14 عاما.
مشهد قاتم
يرى معظم المراقبين لهذا الملف أن "المشهد قاتم"، ذلك أن "مسألة الرواتب والعمالة ستكون قنبلة جاهزة للانفجار"، مشيرين إلى أن الانفجار ليس فقط بسبب التسريح، وإنما بسبب طلبات التوظيف الجديدة، من قبل السوريين العائدين من الخارج، والذين سيجدون أن من حقهم الحصول على عمل بعد سنوات التهجير.
إذاً؛ هي "وصفة جاهزة للانقسام والجوع وإنتاج دورة عنف جديدة"، كما يقول هؤلاء، ستؤدي من بين نتائجها إلى ازدياد جرائم السرقة والخطف والقتل، بينما أقل تجلياتها بشاعة، هي الاحتجاجات التي تخرج كل يوم في عدة محافظات سورية، احتجاجا على عمليات التسريح المتواصلة.
يقول الباحث الاقتصادي السوري أيهم أسد، الدكتور في المعهد الوطني للإدارة العامة، إن "تصريحات الحكومة المؤقتة تشير إلى أنها مستعدة للاستغناء عن قرابة 300 ألف موظف من موظفي الإدارة العامة في سوريا خلال الفترة القادمة".
وأضاف أسد لـ"إرم نيوز": "سوف تؤدي عمليات التسريح تلك وفي ظل عدم وجود وضوح حول مستقبل ومصير أولئك المسرّحين من العمل بعد مدة الثلاثة أشهر، أو عن مصير الذين تم الاستغناء عنهم نهائيا، إلى زيادة عدد العاطلين عن العمل".
وتابع: "إذا ما أضيف لما سيتم تسريحه من الموظفين المدنيين، أفراد الجيش والشرطة والأمن والجمارك التابعين للنظام السابق، فإن الاقتصاد السوري سيكون أمام موجة بطالة كبيرة وواضحة المعالم، ومع توجهات الحكومة الجديدة للتخلي عن الكثير من المنشآت الخاسرة في القطاع العام أيضا فإن موظفين جددا سينضمون إلى قائمة العاطلين عن العمل أيضا".
"لاتقربوا الصلاة"
ومن جهته، يفنّد الخبير الاقتصادي ماهر أدنوف، ما تقوله الحكومة السورية الحالية بأن تسريح عمالة القطاع العام أمر حيوي للإصلاح الاقتصادي، مشيرا، في تعليق لـ"إرم نيوز"، إلى أن "الحكومة السورية الحالية لا تمتلك أي خطة لتقديم تعويضات بطالة، وهي لا تمتلك أي شريك دولي ملتزم بتوفير عمليات تدريب وتطوير لخبرات الباحثين عن العمل. ومن هنا يبدو مصير مئات الآلاف من السوريين واضحا، وهو ما ستكون له آثار كارثية على أكثر من صعيد وأولها ضرب الأمن الاجتماعي".
قضية "بوجهين"
أما الخبير في الإدارة، عبد الرحمن التيشوري، فيرى، من جهته، أن "قضية تسريح الموظفين الحكوميين تحمل وجهين؛ فمن جهة يبدو كلام الإدارة الجديدة عن وجود فائض كبير وبطالة مقنعة وأعداد كبيرة من الأسماء الوهمية، صحيحا، لكن من جهة أخرى تبدو قرارات التسريح والإقالة غير مبنية على أسس صحيحة وتستهدف أشخاصا على رأس عملهم وبينهم أصحاب شهادات وخبرات".
ويوضح الخبير، في تصريحات لـ"إرم نيوز"، أن "لدى سوريا بالفعل إحدى أعلى النسب في التوظيف الحكومي قياسا بعدد السكان، وفقا لما يُعرف بالستاندرد العالمي".
ويكشف التيشوري أن "نسبة عدد الموظفين لعدد السكان في سوريا تتراوح بين 6 و7%، وهذا تضخم كبير جدا بالقياس إلى الستاندرد العالمي الذي يجب أن يكون بحدود 3% ولايتجاوز في حده الأقصى 4%".
ويضيف: "حتى الدول التي فيها وزارات قوى عاملة مثل مصر، والتي توظف جميع الخريجين على الدور، كانت النسبة فيها 4%".
ويبلغ عدد الموظفين في سوريا حوالي مليون و600 ألف موظف من كل وزارات الدولة، وفقا للخبير الإداري، حيث تأتي وزارة التربية والتعليم على رأس الوزارات من حيث عدد موظفيها بنحو 400 ألف، تليها الصحة 120 ألف، ثم الزراعة وفيها ما بين 70 و75 ألف .
ومن هنا، يرى التيشوري أن "الوظيفة العامة بحاجة إلى إعادة هيكلة، والوزارات بحاجة إلى تخفيض عدد عمالتها، وهناك تشوه وتضخم حاد لابد من علاجه، لكن ترك هؤلاء الموظفين على الغارب وإخراجهم بلا مصدر رزق يشكل خطرا على الأمن الاجتماعي وربما يكون قنبلة موقوتة قد تنفجر قريبا في وجه الإدارة الجديدة والبلاد عامة".
ويقول الخبير إن "العاملين على هذا الملف في الإدارة الحالية لا يدركون على ما يبدو أبعاد هذا الأمر وآثاره. فالنظام الفاسد السابق كان أكثر ذكاء وربما "شيطانية"، لأنه كان يلعب بهذه القصة ويتحكم بهؤلاء الناس، فيما تقوم الإدارة الحالية بفصل الناس، ودفعهم إلى مصير مجهول قد يرتد عليها لاحقا".
أما عن تبريرات الإدارة الجديدة بأنها قد تحتاج إلى 6 أشهر لبناء قاعدة بيانات لأعداد الموظفين، لتقرر بعدها مصير الموظفين، يبين الخبير الإداري أن "كلام الإدارة الجديدة بأنه ليس لدينا قاعدة بيانات للموظفين هو غير صحيح، فلدينا قاعدة بيانات، وكل الشركات والوزارات فيها قاعدة بيانات، لكنهم يريدون بناء قاعدة بيانات جديدة، من دون الوثوق بإحصاءات الحكومة السابقة أو النظام السابق"، على حد تعبيره.
منحى خطير
الكاتب والباحث السوري، مازن بلال، ينظر إلى هذا الأمر ضمن حزمة القرارات الاقتصادية التي تتخذها الحكومة الحالية، والتي تبدو متخبطة، ويقول: "بالرغم من عدم وجود خطة معلنة، لكن الواضح أن المصرف المركزي يحتجز الكتلة النقدية للحفاظ على سعر الدولار في محاولة منه لتحقيق إنجاز، ولكن في المقابل فإن هذا الأمر مع عمليات تخفيض الموظفين سيقلل من القدرة الشرائية وسيرفع التضخم".
ويوضح بلال أن "الانتقال إلى اقتصاد السوق الذي تتحدث عنه الحكومة المؤقتة، دون إنتاجية، سيؤدي في النهاية لانهيار اقتصادي، ورغم أن الحديث عن نتيجة طبيعية للتحول الاقتصادي لكنه في سوريا يأخذ منحى خطيرا مع عدم وضوح الآليات الاقتصادية".
ويختم بلال بأن "لدى الإدارة الجديدة وهما بالانتصار، وما يحدث هو أنهم (أي السلطة الجديدة) يحاولون تصدير صورة خاصة، فما يهمهم صورتهم للخارج أكثر من الداخل، محذرا من أن أسوأ ما يحصل في عمليات التسريح هو البعد الطائفي الواضح تماما من خلال الفصل التعسفي لمكون سوري معين، لتبدو عمليات التسريح والفصل أقرب منها للأعمال الانتقامية من الأهداف الاقتصادية".