يأتي الاتفاق الأوّلي لوقف إطلاق النار في غزة كتحوّل سياسي إقليمي يعيد ترتيب أولويات الفاعلين في المنطقة؛ فمع تراجع العمليات الميدانية في القطاع، تتجه الأنظار إلى الجبهة اللبنانية باعتبارها الحلقة الأكثر حساسية في منظومة التوازنات بين الردع الإسرائيلي والضبط الإقليمي.
المرحلة المقبلة تبدو اختباراً لإمكانية تثبيت تهدئة شاملة أو انتقال الصراع إلى شكل جديد من الضغوط غير المعلنة. وفي هذا السياق، تتعامل الأطراف المعنية مع الجنوب اللبناني باعتباره مساحةً حرجة تتقاطع فيها الحسابات العسكرية والأمنية مع الحسابات الدبلوماسية والاقتصادية؛ ما يجعل إدارتها بدقّة شرطاً لتجنّب انزلاقٍ أوسع.
تُدرك إسرائيل أن أيّ تصعيد واسع في الجنوب لن يخدم وضعها الداخلي ولا مصالحها الدولية بعد حربٍ مكلفة في غزة. لكنها في المقابل تنظر إلى الحدود اللبنانية بوصفها منطقة هشّة يمكن من خلالها إعادة ضبط قواعد الاشتباك القديمة التي تعود إلى عام 2006.
الاهتمام الإسرائيلي يتركّز اليوم على إعادة تعريف الردع ليس عبر الحرب، وإنما من خلال توسيع هامش الحركة السياسية والدبلوماسية التي تضغط باتجاه تحجيم نفوذ "حزب الله" دون تفجير الميدان.
الفكرة السائدة في دوائر صنع القرار الإسرائيلي بحسب مصادر "إرم نيوز" تدور حول أنّ تثبيت التهدئة جنوباً يتطلب شروطاً أمنية جديدة، أهمها ضبط انتشار السلاح ووجود قوة لبنانية شرعية قادرة على إدارة الحدود.
مصادر دبلوماسية غربية أفادت "إرم نيوز" بأن ما بعد اتفاق غزة يُنظر إليه كفرصة لإعادة صياغة التوازن الأمني في الإقليم على نحوٍ يضمن عدم عودة الجبهات إلى الاشتعال، مع اعتماد سياسة "الضغط الهادئ" تجاه لبنان بدلاً من أي تصعيد عسكري مباشر.
المعلومات تشير إلى أن الإدارة الأمريكية أبلغت الجانب الإسرائيلي بوضوح أن فتح جبهة جديدة مع لبنان سيقوّض مسار التهدئة في غزة ويعقّد ترتيبات إعادة الإعمار، وهو ما تحاول واشنطن تجنبه بعد أشهر من التصعيد.
في المقابل، تُشجّع واشنطن إسرائيل على استثمار المناخ السياسي الحالي للانتقال من "إدارة الحرب" إلى "إدارة التوازن"، أي الحفاظ على حالة الردع دون تجاوز الخطوط التي قد تُعيد التصعيد. هذا التوجّه يتضمّن حزمة أدوات متكاملة، أبرزها تعزيز المراقبة الجوية والاستخباراتية على طول الخط الأزرق، مع تحديث آليات التنسيق مع قوات "اليونيفيل" لضمان تطبيق القرار 1701 بشكل أكثر فعالية.
إضافة إلى الضغط السياسي والاقتصادي غير المعلن عبر المؤسسات الدولية المانحة، لدفع الدولة اللبنانية إلى تحمّل مسؤولية أكبر في ضبط الحدود ومنع الأنشطة العسكرية غير الرسمية.
وذلك إلى جانب التنسيق مع فرنسا التي تقود المسار الدبلوماسي الموازي، بهدف التوصل إلى تفاهم أمني جديد يحدّد بدقة مناطق الانتشار العسكري ويمنح الشرعية الكاملة لوجود الجيش اللبناني جنوب الليطاني.
وتفيد المعلومات أيضاً بأن المرحلة المقبلة ستشهد تكثيفاً للتحرّك الأمريكي – الفرنسي المشترك من خلال زيارات مكوكية لمبعوثين عسكريين وسياسيين، في محاولة لترجمة التفاهمات النظرية إلى خطوات عملية. هذه الجهود تندرج ضمن ما يسمّيه دبلوماسيون في باريس بـ"التحجيم الوقائي"، أي تقليص القدرة الميدانية لـ"حزب الله" بطريقة تدريجية ومتراكمة، من دون استفزازه أو دفعه إلى الرد.
أما على المدى المتوسط، فتقدّر مصادر "إرم نيوز" أن واشنطن وتل أبيب تتّجهان إلى تحويل الهدنة غير الرسمية في الجنوب إلى صيغة تهدئة طويلة الأمد، تُدمج لاحقاً في تفاهمات إقليمية أوسع يمكن أن تشمل الملف الإيراني. هذه المقاربة لا تنطلق من النية لتجريد الحزب من سلاحه فوراً، بل من بناء شبكة ضغوط اقتصادية وسياسية تجعل استمرار امتلاك هذا السلاح عبئاً أكثر مما هو رصيد قوة.
في ضوء ذلك، يبدو أن السيناريو المرجّح خلال الأشهر المقبلة هو مرحلة من "الضغط المنضبط"، بحسب المصادر، فواشنطن ستكثّف أدواتها الدبلوماسية، وفرنسا ستواصل طرح مقترحاتها حول "إعادة تموضع القوات اللبنانية جنوباً".
لكن، كما تؤكد المصادر فإن "الخط الأحمر للجميع هو تفادي الحرب، مع الإبقاء على الضغط السياسي قائماً بما يكفي لتغيير معادلات القوة داخل لبنان ببطء ولكن بثبات".
بهذه المعادلة، يصبح التعامل مع ملف لبنان امتداداً لاتفاق غزة لا فصلاً عنه، بحيث تكون تهدئة مضبوطة في الجنوب، وضغط مفتوح لتقليص نفوذ السلاح خارج الدولة من دون الانزلاق إلى مواجهة شاملة.
تُظهر المؤشرات الميدانية بعد الاتفاق أن التوتر في الجنوب اللبناني لم يتراجع فعلياً. فالخروقات من قبل الجيش الإسرائيلي، يمكن أن تعبّر عن سياسةٍ إسرائيلية تهدف إلى إبقاء التوتر تحت السيطرة من جهة، واستثمار المناخ السياسي الجديد لفرض قواعد اشتباكٍ مختلفة من جهةٍ أخرى.
في المقابل، يعتمد الوسطاء على فكرة "التهدئة المضبوطة"، أي هدوء يمنع الصراع في الملف اللبناني من الانفجار. هذه المقاربة تقوم على إدارة الوقت بعد إطفاء النار الكبرى في غزة، وإمكانية ترك الجمر مشتعلاً على الحدود اللبنانية تحسّباً لأيّ تعديل في توازن الردع.
المحلل السياسي اللبناني، أسامة طربيه، اعتبر خلال حديثه لـ"إرم نيوز" أن اتفاق غزة حوّل أدوات المواجهة في الملف اللبناني من الميدان إلى السياسة. فالملف اللبناني يدخل هذه المعادلة بوصفه المساحة التي ستُختبر فيها حدود التحوّل الجديد، وإلى أي مدى يمكن للهدوء أن يُدار كأداة نفوذ.
وأضاف طربيه أن "لبنان اليوم ليس مهدَّداً بحربٍ وشيكة، لكنه يدخل مرحلة أعقد من ذلك، هي مرحلة إعادة تعريف التوازن داخل الهشاشة. فواشنطن وتل أبيب، وبدعم أوروبي غير صدامي، تراهنان على أن تثبيت التهدئة في غزة سيسمح بإطلاق مسار ضغط سياسي–اقتصادي طويل الأمد يهدف إلى تفكيك بنية السلاح غير الرسمي في لبنان من دون اللجوء إلى مواجهة عسكرية. هذه المقاربة تُطرح كمشروع إدارة إقليمية للنفوذ، تُستخدم فيها المساعدات، والاستحقاقات السياسية، والضغوط المالية أدواتٍ لإعادة رسم سلطة القرار في بيروت".
في المقابل، لا يبدو أن لبنان يمتلك أدوات توازنٍ مضاد، بحسب المحلل السياسي، فمؤسسات الدولة عجزت حتى الآن عن إنتاج مقاربةٍ وطنية مشتركة تُحافظ على الهامش السيادي وسط التنازع بين منطق الدولة ومنطق القوة. لذلك، يصبح "الهدوء" المفروض إقليمياً نسخة لبنانية من اللاسلم واللاحرب، وفق طربيه، تدار فيها التناقضات الداخلية تحت غطاء دوليٍّ حذر، فيما تبقى الأسئلة الجوهرية، من السلاح إلى الحدود إلى الإصلاح؛ مؤجلة إلى حين تبلور خريطة النفوذ الجديدة في المنطقة.
بالنسبة إلى إسرائيل، لا يمكن فصل اتفاق غزة عن الملف الاستراتيجي الأوسع المتعلق بالحدود الشمالية. فالاتفاق بحسب تقدير طربيه يمنح تل أبيب هامشاً للتحرّك في ملفاتٍ أخرى، أبرزها الضغط السياسي والعسكري على "حزب الله" ضمن مسارٍ تدريجي يهدف إلى تحجيم دوره دون خوض حرب شاملة.
التقديرات الإسرائيلية الحالية تشير وفق مصادر "إرم نيوز" إلى أن تحقيق "نزعٍ كاملٍ للسلاح" غير ممكنٍ عسكرياً، لكنه قد يصبح هدفاً سياسيّاً يمكن فرضه عبر ترتيباتٍ أمنيةٍ دولية، أو ربط المساعدات الاقتصادية للبنان بضمانات أمنيةٍ جنوبية. في هذا السياق، تتعامل إسرائيل مع لبنان ليس كساحة مستقلة، بل كامتدادٍ للملف الإيراني، ومعادلة ردعٍ لا يمكن كسرها إلا بتحييد إحدى أذرعها.
يجد لبنان نفسه اليوم أمام مرحلة دقيقة تتقاطع فيها الملفات الإقليمية مع واقعه الداخلي. فالاتفاق في غزة فتح الباب أمام مقاربات جديدة للتهدئة؛ ما يمكن أن يفرض على بيروت بلورة رؤية واضحة تحفظ تماسكها الداخلي وتحدّد موقعها في المشهد الآتي.
النقاش حول الجنوب اللبناني قد يصبح اختباراً لمدى قدرة الدولة اللبنانية على إدارة توازنٍ بين التزاماتها الدولية ومتطلبات استقرارها الداخلي. إنّ المرحلة المقبلة تتطلّب انتقالاً من ردّ الفعل إلى صياغة المبادرة، بما يتيح للبنان أن يكون شريكاً في ضبط التهدئة.
يُظهر الوضع الراهن أن الجنوب اللبناني دخل مرحلة استقرارٍ مراقَب؛ فالاتفاق في غزة أرسى مناخاً إقليمياً جديداً يقوم على تخفيف المخاطر. في حين تتعامل الأطراف المعنية اليوم مع الجنوب باعتباره منطقة اختبارٍ دبلوماسي تُقاس فيها فعالية الهدنة أكثر مما تُقاس فيها موازين القوة. فإسرائيل تميل إلى تثبيت الردع دون تجاوز حدوده، والوسطاء الدوليون يعملون على صياغة ضمانات متبادلة تحفظ الهدوء وتمنع أي انزلاق.
أما لبنان، فمدعوّ إلى ترجمة هذا الهدوء إلى سياسة مستدامة، تقوم على تعزيز حضور مؤسساته الأمنية والإدارية في الجنوب، بما يحوّل التهدئة من إجراء ظرفي إلى بنية استقرار طويلة المدى.