الجيش الإسرائيلي: استعدنا خلال "عربات جدعون" 10 جثامين لإسرائيليين كانوا محتجزين في غزة
تواجه الدولة اللبنانية اليوم واحدة من أعقد أزماتها السيادية، والمتمثلة بسلاح حزب الله. فما يجري يكشف عن طبقات أعمق من الخلل البنيوي في منظومة القرار اللبناني، حيث يقف السلاح خارج الشرعية كأحد أبرز معوقات بناء الدولة.
ومع تصاعد الضغوط الأمريكية، وانكشاف هشاشة الوضع الداخلي، وظهور تحركات رسمية من القصر الجمهوري، يقف لبنان عند مفترق بالغ الخطورة؛ فإما أن ينجح في تفكيك "الاحتكار المسلح" لصالح الشرعية، أو أن يُدفَع نحو انفجار غير محسوب، لا رغبة فيه لأحد، لكن لا قدرة على منعه إن انفلتت قواعد اللعبة.
الرئيس اللبناني جوزيف عون، وفي خطوة غير مسبوقة، أعلن عن اتصالات مباشرة مع قيادة حزب الله، معلناً بوضوح أن "تطبيق قرار حصرية السلاح هو قرار متّخذ، ولا رجعة عنه". لكن الحزب من جهته، لا يزال يلوّح بخطاب وجودي حاد، مستعيداً لهجة "الزوال" و"التهديد الوجودي" في مواجهة أي محاولة للمساس بترسانته.
فهل نحن أمام إرادة رسمية بدأت تتقدّم فعلاً، ولو ببطء، وهل بات الحزب نفسه عالقاً في أزمة سلاحه، التي كانت سابقاً مصدر قوته وشرعيته.
معادلة الحوار أو الانفجار
بحسب مصدر سياسي لبناني تحدث لـ"إرم نيوز"، فإن المفاوضات التي يجريها الرئيس عون مع الحزب لا تدور فقط حول شكل السلاح أو آلياته، بل حول موقعه داخل الدولة، ومتى يبدأ بالتراجع دون أن يظهر كمهزوم.
ويضيف المصدر: "لا أحد في الدولة يسعى إلى الصدام، لكن الجميع يدرك أن استمرار الوضع كما هو عليه يُبقي لبنان في دائرة العزلة والانهيار. والتقدّم يتم من داخل منطق الدولة، ليس من خارجها".
في هذا السياق، تبدو الدولة، للمرة الأولى منذ سنوات، بصدد تقديم رؤية سياسية لا أمنية فقط لمسألة السلاح، دون أن تكون في موقع القوة الكاملة. فقول الرئيس عون بأن "تطبيق القرار لا رجعة فيه" هو تحول رمزي بالغ الأهمية، حتى لو لم تُرفق به جداول تنفيذية واضحة، بحسب المصدر.
ويشير المصدر في حديثه لـ"إرم نيوز" إلى أنّ جزءاً من التقدّم الجاري لا يُقاس بمؤشرات عسكرية أو فنية، وإنما بمؤشرات شرعية. فالدولة، بحسب تعبيره، "بدأت تنقل ملف السلاح من هامش الحوار الوطني إلى صلب النقاش الدستوري"، في إشارة إلى تحوّل نوعي في المقاربة الرسمية، يعكس سعياً إلى احتواء موقع الحزب من داخل منظومة المؤسسات وليس عبر استهداف مباشر.
كما يلفت إلى أنّ "الحزب نفسه لا يبدو متماسكاً كما في السابق؛ إذ هناك تردّد في حسم الموقف، وكأن القرار لم يعد لبنانياً فقط، بل مشروط بإشارات إقليمية لم تصدر بعد"، مضيفاً أن السلطة السياسية تحاول أن تُظهر جدية في إدارة الملف دون افتعال استفزاز، لكنها بالمقابل، تدرك أن الوقت ليس مفتوحاً بلا سقف، وأن المهلة الضمنية تضيق يوماً بعد آخر.
فقدان الغطاء الإقليمي وتراجع الشرعية الشعبية
في خضم تصاعد الخطاب السياسي بشأن تطبيق القرار 1701، تتبدى الفجوة العميقة بين القرار السياسي والقدرة التنفيذية في الدولة اللبنانية؛ إذ يشير إعلان الرئيس جوزيف عون "تطبيق القرار لا رجعة فيه" إلى توجّه سياسي صريح نحو استعادة القرار السيادي، إلا أنّ هذا التصريح يصطدم ببنية مؤسساتية غير قادرة على فرضه، في ظل وجود قوى مسلّحة موازية، وبيئة سياسية لا تتقاطع كلها مع هذا الخيار، بحسب تصريحات المحلل السياسي اللبناني، أسامة طربيه لـ"إرم نيوز".
وتعكس طبيعة المشهد التنفيذي في لبنان استمرار التعقيد البنيوي في مؤسسات الدولة، حيث القرار التنفيذي ما يزال مُقيّداً بسلطة توافقية هشّة، وموزعة بين طوائف وقوى أمر واقع. ومن ثم، وفق طربيه، فإنّ التحدي لا يكمن فقط في صدور القرار السياسي، وإنما في تفعيل أدوات تنفيذه ضمن بيئة مؤسسية مفككة، حيث لا يوجد مركز ثقل سيادي واضح قادر على فرض المعادلات الأمنية أو العسكرية دون اصطدام بمنطق المحاصصة أو التوازنات الداخلية التي شُيّدت منذ اتفاق الطائف.
وهكذا، يغدو السؤال الجوهري ليس ما إذا كانت الدولة تريد تطبيق القرار، بل ما إذا كانت قادرة على ذلك ضمن معادلتها البنيوية الراهنة؛ ما يضع مشروع "نزع السلاح" ضمن مسار تحوّلي طويل الأمد. لكن ومن من جهة أخرى، فإن سلاح الحزب بدأ يتحوّل من نقطة قوة إلى نقطة إرباك، ليس للدولة فقط، بل للحزب نفسه.
ويتابع طربيه أن الشعارات التي رُفعت منذ سنوات تحت عنوان "سلاح المقاومة" لم تعد تحظى بالإجماع داخل بيئته، خصوصاً في ظل استنزاف متواصل بعد الحرب الأخيرة، وتهجير واسع، وخسائر بشرية في غضون أشهر قليلة.
"لم يعد الحزب قادراً على تبرير كلفة سلاحه حتى ضمن صفوفه"، تقول مصادر "إرم نيوز"، مضيفة أن "كل محاولة لتوسيع السردية الدفاعية تصطدم اليوم بمحدودية الغطاء الإقليمي".
التحولات في بنية الشرعية الحزبية تزداد عمقاً. فإيران التي كانت حتى الأمس القريب تعتبر لبنان منصة متقدمة، باتت تنظر إليه كورقة تفاوضية في سياق أكبر. وهذا ما يفسّر حسب مصادر "إرم نيوز"، "التحوّل في نبرة الحزب من الفعل الهجومي إلى الدفاع الرمزي، عبر لغة التهديد لا المبادرة".
منذ بدء التصعيد السياسي والإعلامي حول ملف تطبيق القرار 1701 وتفكيك سلاح "حزب الله"، يلفت الانتباه الصمت النسبي الذي يلتزمه الحزب، لا سيما في ما يخص المسار الرسمي الذي تقوده رئاسة الجمهورية ووزارة الدفاع. هذا الصمت، الذي قد يبدو للوهلة الأولى موقفاً محسوباً، يكشف في العمق عن مأزق مركب، يتقاطع فيه التراجع في الغطاء الإقليمي، والتبدلات الداخلية، مع حسابات معقدة تتعلق بإدارة الردود، وفق ما يشير إليه حديث الباحث السياسي، جوزيف كرم لـ"إرم نيوز".
ففي خطاباته الأخيرة، ركز الحزب على مواجهة إسرائيل وتعزيز "محور المقاومة"، دون التطرق بشكل مباشر إلى أي من التفاهمات أو التصريحات الرسمية اللبنانية المتعلقة بالقرارات الدولية أو بالسلاح، الأمر الذي قد يشير بحسب كرم إلى محاولة تجنّب إعطاء شرعية للنقاش الدائر أو الدخول فيه كطرف ضمن اللعبة السياسية الداخلية.
وتابع قائلاً "هذا الانكفاء التكتيكي يعكس ما يمكن تسميته بالتحفظ القلق، حيث يدرك الحزب أنّ الدخول في مواجهة مفتوحة حول سلاحه الآن قد يؤدي إلى مزيد من فقدان الغطاء الشعبي، في وقت تعاني فيه بيئته التقليدية من تراجع اقتصادي وخدمي وأخلاقي واضح. كما أن الوضع الإقليمي يدفع الحزب إلى الاكتفاء بإشارات خارجية دون حسم مواقفه محلياً".
وبهذا المعنى، وفق الباحث السياسي اللبناني فإن صمت "حزب الله" لم يعد مجرد تكتيك اتصالي، بقدر ما يعبّر عن ارتباك استراتيجي ناتج عن تحوّلات لم يعد يملك وحده مفاتيح التحكّم بها.
لم يعد ملف السلاح في لبنان مجرد قضية أمنية. إنه يعكس خللا بنيويا أعمق، يتمثل في تعثّر الدولة عن التحوّل إلى سلطة سيادية مكتملة. في المقابل، يواجه حزب الله تحديات متزايدة في تثبيت سرديته التقليدية، وسط تقلّص الهوامش الإقليمية وتراجع الغطاء المجتمعي.