انطلقت صباح اليوم الثلاثاء الانتخابات البرلمانية العامة في العراق، لاختيار أعضاء مجلس النواب البالغ عددهم 329 نائباً، في واحدة من أكثر المحطات الانتخابية تعقيداً منذ 2006، مع ترقب ومخاوف من أن التحدي الأكبر الذي تنتظره البلاد سيأتي بعد إعلان النتائج.
وبينما تُغلق صناديق الاقتراع مساء اليوم، تبقى الأنظار معلّقة على نسب المشاركة النهائية، وعلى طبيعة التحالفات التي ستتشكل في الأيام المقبلة، إذ ستكشف نتائج الانتخابات ما إذا كان العراق قادراً على إنتاج نظام سياسي جديد أكثر توازناً وشفافية، أم أن الدورة الانتخابية ستعيد إنتاج المعادلة القديمة تحت عناوين مختلفة.
وشهدت الساعات الأولى من عملية الاقتراع إقبالاً متواضعاً في عدد من المحافظات، بحسب ما كشفت مصادر سياسية لـ "إرم نيوز"، إذ تراوحت نسب المشاركة فيها بين 18 و22 % حتى منتصف النهار، فيما بدت المشاركة أعلى قليلاً في محافظات الجنوب ذات الثقل الشيعي، ولا سيما البصرة والنجف.
ورغم الانتشار الأمني الكثيف، بدت الأجواء مستقرة نسبياً في عموم البلاد، مع تسجيل خروق تقنية محدودة في بعض مراكز التصويت بمحافظة نينوى والأنبار، حسب ما أفادت به المفوضية العليا للانتخابات. فيما تشير التقديرات الأولية إلى أن الإقبال العام قد لا يتجاوز نسبة 40% المسجلة في انتخابات 2021، في ظل حالة إحباط شعبي عام من قدرة البرلمان المقبل على إحداث تغيير ملموس.
وأكدت مصادر إعلامية أن مراكز الاقتراع في أحياء العاصمة شهدت حضوراً متفاوتاً بين الرجال والنساء، بينما لوحظ عزوف نسبي لدى الفئة العمرية الشابة التي تمثل أكثر من نصف الناخبين المسجلين.
تكسر الانتخابات الحالية، وفق مراقبين، النمط التقليدي للتنافس السياسي في العراق، فلم تعد خطوط التماس بين المكونات الطائفية والقومية، بل داخل كل مكوّن على حدة.
وتدور المعركة الأساسية هذه المرة بين القوى الشيعية نفسها، وكذلك بين الأحزاب الكردية والسنية داخل بيئاتها الخاصة، في ما وصفه الباحث السياسي العراقي فراس إلياس بأنه "تحوّل من الاستقطاب الأفقي إلى الاستقطاب العمودي".
وأضاف إلياس في تصريحات لـ"إرم نيوز" أن الانتخابات الحالية "تمثّل صراعاً داخلياً على شرعية تمثيل المكوّن، أكثر من كونها منافسة بين مكونات مختلفة. إنها انتخابات لإزاحة الذات داخل الطائفة نفسها، وإبقاء الضدّ النوعي من المكوّن الآخر".
ورأى أن "هذه المعادلة الصفرية تجعل من نتائج الانتخابات مسألة وجودية لبعض القوى السياسية، لأنها ستحدّد من يبقى داخل دائرة النفوذ، ومن يُقصى منها تماماً".
ووصفت مصادر سياسية المشهد بأنه "سباق محموم داخل كل بيت سياسي"، وسط محاولات لإعادة صياغة التوازنات القديمة، خصوصاً بعد انقسام التيار الشيعي بين كتل متنافسة على زعامة البيت السياسي، في غياب شبه كامل للتيار الصدري الذي اختار المقاطعة.
تقول مؤشرات عملية التصويت الخاص التي أُجريت الأحد الماضي إن الأحزاب التي تمتلك أجنحة مسلحة أو نفوذاً في المؤسسة الأمنية حصدت نسبة تصويت أعلى من غيرها، وهو ما أثار مجدداً الجدل حول عدالة المنافسة الانتخابية وتكافؤ الفرص.
فيما أكدت مطّلعة لـ"إرم نيوز" أن "جزءاً كبيراً من المنتسبين في الأجهزة الأمنية شاركوا في التصويت الخاص تحت تأثير الولاء المؤسسي أو الحزبي، وليس على أساس القناعة الانتخابية الحرة"، مشيرة إلى أن "الاختلال في بيئة التصويت ينعكس حتماً على النتائج النهائية".
ووفق مراقبين، فإنّ ما يجري يؤكد هشاشة مفهوم العدالة الانتخابية في بلد لا تزال فيه أدوات النفوذ غير السياسية حاضرة بقوة، إذ تتقدّم الأحزاب ذات السند العسكري على خصومها المدنيين بقدرتها على التنظيم والحشد وضمان أصوات من داخل المؤسسات الرسمية.
وبحسب الباحث فراس إلياس، فإنّ "الانتخابات العراقية تعاني من مشكلة بنيوية مزمنة تتمثل في تغوّل نفوذ السلاح داخل السياسة، ما يجعل النتيجة النهائية أقرب إلى تثبيت موازين القوى الحالية، لا إلى إنتاج مشهد جديد".
تُجمع المصادر السياسية على أن التحدي الأكبر لا يكمن في يوم التصويت، بل في اليوم التالي لإعلان النتائج، حين تبدأ مفاوضات تشكيل الحكومة الجديدة. وتشير معطيات من داخل بغداد إلى أن هذه المرحلة ستكون الأكثر حساسية، لأن الدور الخارجي سيطغى على التوازنات الداخلية في رسم شكل الحكومة المقبلة.
وتعوّل الأطراف الإقليمية، بحسب إلياس، على الحكومة القادمة كأداة لتعديل ميزان النفوذ في العراق، فالولايات المتحدة ستسعى إلى خلق معادلة سياسية شيعية جديدة أكثر اعتدالاً، بينما تعمل إيران على حماية المنظومة التقليدية التي وفّرت لها نفوذاً ثابتاً خلال العقدين الماضيين.
وبحسب تقديرات سياسية عراقية، فإنّ "البيت الشيعي" سيبقى مركز الثقل في أي تفاهم حكومي مقبل، باعتباره المعني الأول باختيار رئيس الوزراء، وأن أي انقسام داخلي حاد بين أطرافه سيؤدي إلى فراغ سياسي طويل قد يتجاوز الأشهر الأولى من 2026.
يخلص خبراء إلى أن نتائج هذه الانتخابات ستحدّد المسار الذي سيسلكه العراق خلال السنوات المقبلة، فإما الخروج من المنطقة الرمادية الراهنة، أو البقاء في دائرة التوازنات الهشة بين الداخل والخارج.
وباعتقاد إلياس، فإن "هذه الانتخابات تمثّل لحظة حاسمة، لأن الحكومة التي ستنبثق عنها ستحدّد الوجهة المقبلة للعراق، بين استقرار تدريجيّ وبناء مؤسساتيّ، أو مزيد من التجاذبات السياسية والأمنية".
وأضاف أن "العراق اليوم هو ساحة الصراع الأخيرة التي لم تُصفّر بعد في الإقليم؛ لذلك تحاول كل الأطراف رسم ملامح المرحلة المقبلة انطلاقاً من بغداد، لا من العواصم المجاورة".