عاد ملف تحويل محافظة البصرة إلى إقليم إداري ليفرض نفسه مجدداً على المشهد السياسي العراقي، وسط تحذيرات من أن فتح هذا الباب قد يقود إلى تفكيك مناطقي وطائفي، مقابل إصرار يرى في الخطوة فرصة أخيرة لانتزاع الحقوق وإنهاء عقود من الإهمال والتهميش.
وباشر مجلس محافظة البصرة خطواته الإجرائية الفعلية لإحياء الملف، بعد أن تقدم نائب رئيس المجلس أسامة عبد الرضا السعد بطلب رسمي يطالب فيه رئيس مجلس الوزراء بإحالة مقترح "إقليم البصرة" إلى المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، تمهيداً للمضي بالإجراءات القانونية والدستورية.
وتشير تصريحات مسؤولين إلى وجود توجه للتصويت على بدء إجراءات التحول إلى إقليم، في ظل حديث عن توافق سياسي داخل المجلس، ولا سيما مع تحركات لجمع تواقيع الأعضاء، بمشاركة قوى محلية أبرزها تحالف "تصميم" بزعامة المحافظ أسعد العيداني.
وبالتوازي مع هذا الحراك، أعلنت المفوضية العليا للانتخابات إطلاق استمارة طلبات تشكيل إقليم البصرة، في خطوة أعادت إلى الواجهة المسار الدستوري للأقاليم المنصوص عليه في المادة 119 من الدستور.
وهذا التطور أعاد التذكير بمحاولات سابقة لتشكيل الإقليم، أبرزها عام 2008، حين جرى جمع أكثر من 164 ألف توقيع دون أن تصل العملية إلى استفتاء نهائي، وسط اتهامات للحكومات المتعاقبة بعرقلة الملف لأسباب سياسية.
في هذا السياق، قال الناشط المدني مسلم الخفاجي إن "التحرك الحالي مستقل ولا يخضع لإملاءات أحزاب أو قوى خارجية، وهو مطلب ينبع من حاجة البصرة إلى إدارة مواردها المالية والخدمية بشكل مباشر، وبما يضمن انعكاس ثرواتها النفطية على واقعها المعيشي".
وأضاف الخفاجي لـ"إرم نيوز" أن "أزمات المياه والتلوث البيئي وسوء الخدمات كشفت عجز النظام المركزي عن التعامل مع خصوصية المحافظة"، مشيراً إلى أن "خيار الإقليم يطرح اليوم باعتباره أداة إدارية لتحسين الإدارة، وليس مشروعاً سياسياً للانفصال أو تقويض وحدة البلاد".
وتتقاطع هذه الرؤية مع ما تطرحه النائبة السابقة عن البصرة زهرة البجاري، التي أكدت أن "المطالبة بإقليم البصرة انطلقت ضمن الأطر القانونية منذ عام 2008، ومرت بمحطات متعددة في 2012 و2018" مبينة أن "تصويت مجلس المحافظة على هذا المسار يعني السير في طريق دستوري واضح لا لبس فيه".
وأضافت لـ"إرم نيوز" أن "الضغط الشعبي المتواصل سببه سوء الخدمات، وأزمات المياه، والتلوث البيئي الذي لم يجد حلولاً جذرية، ومن حق أبناء البصرة المطالبة بإدارة داخلية أكثر فاعلية لمعالجة هذه الملفات، سواء عبر قرارات محلية تتعلق بمشاريع السدود أو بفرض معالجات بيئية على شركات النفط".
في المقابل، يبرز تيار سياسي معارض يرى في إحياء ملف الأقاليم خطراً مباشراً على تماسك الدولة العراقية، محذّراً من أن فتح هذا المسار في ظرف سياسي هش قد يؤدي إلى تداعيات أعمق من مجرد تغيير إداري.
ويذهب معارضو الأقلمة إلى أن تحويل المحافظات الغنية بالموارد، وعلى رأسها البصرة، إلى أقاليم مستقلة إدارياً قد يعمق الفجوة بين المحافظات، ويغذي شعوراً بالغبن لدى المناطق الأفقر؛ ما يفتح الباب أمام نزاعات مناطقية واجتماعية يصعب احتواؤها لاحقاً.
ويرى هؤلاء أن تجربة الدولة الاتحادية في العراق لا تزال غير مكتملة، وأن ضعف المؤسسات وغياب التوازن في توزيع الصلاحيات والموارد قد يحول الأقاليم من أدوات إدارية لتحسين الحكم المحلي إلى كيانات متنافسة على الثروة والنفوذ؛ ما يهدد وحدة القرار الاقتصادي والأمني للبلاد.
كما يحذر هذا التيار من أن الأقلمة، إذا ما طرحت خارج إطار إصلاح شامل للدولة، قد تتحول إلى وقود لتحفيز النعرات المناطقية والطائفية، خصوصاً في ظل الانقسامات السياسية الحادة وتداخل المصالح الحزبية مع البنى المحلية.
ويرى المحلل السياسي محمد التميمي أن "الدفع باتجاه إقليم البصرة في هذا التوقيت يؤشر على ارتباك سياسي أكثر منه استجابة لمطلب خدمي"، محذراً من أن "الأقلمة قد تتحول إلى بوابة لتفكيك إداري ومناطقي يضعف سلطة الدولة المركزية".
وأضاف لـ"إرم نيوز" أن "مشكلات البصرة حقيقية، لكنها لا تحل بتغيير الشكل الإداري بقدر ما تحتاج إلى إصلاحات مؤسسية، وتوزيع عادل للثروة، ومحاسبة حقيقية للمتورطين بالفساد"، مشيراً إلى أن "فتح باب الأقاليم قد يخلق صراعات مستقبلية بين المحافظات الغنية والفقيرة".
وتتفاوت الموارد الاقتصادية بين المحافظات العراقية بشكل حاد؛ إذ تتمتع البصرة بحصة الأسد من الثروة النفطية للبلاد، وتضم غالبية الحقول المنتجة، إلى جانب الموانئ والمنافذ البحرية التي تمثل شريان العراق التجاري الأساسي، في وقت تفتقر فيه محافظات أخرى إلى موارد مماثلة على مستوى الطاقة أو المنافذ الحدودية أو حتى الإمكانات الزراعية الكافية.
ويرى مختصون أن هذا التباين غير المتكافئ في الموارد يعمّق المخاوف من أن تتحول الأقلمة إلى عامل إضافي لاختلال التوازن الوطني، خصوصاً إذا ما اقترنت بسياسات مالية وإدارية منفصلة، ما قد يكرس فجوة تنموية بين المحافظات الغنية والفقيرة.