قالت مصادر أمنية سورية، إن السلطات السورية تتعامل مع ملف تهريب السلاح إلى لبنان بوصفه قضية سيادية وأمنية من الدرجة الأولى. وأشارت إلى أن دمشق تخوض معركة هادئة لكنها مركزة لخنق قنوات تهريب السلاح إلى حزب الله.
مصدر أمني سوري في وزارة الداخلية أكد، لـ"إرم نيوز"، أن ما جرى الإعلان عنه أمس وأيضا خلال الأسابيع الماضية لا يمثل سوى "الواجهة الظاهرة" لعمليات أوسع، تقوم على إعادة تفكيك شبكات تهريب معقدة تشكلت خلال سنوات الحرب، واستفادت من الفوضى الحدودية وتداخل النفوذ المسلح بين سوريا ولبنان.
وكانت مديرية الأمن الداخلي في منطقة الزبداني بريف دمشق، أعلنت عن إحباط محاولة تهريب شحنة أسلحة ضخمة كانت متجهة إلى لبنان. وأفادت وزارة الداخلية أن العملية جاءت نتيجة لمتابعة أمنية دقيقة لتحركات الأشخاص المتورطين.
وأوضحت أنّ المديرية نفّذت كمينا محكما في بلدة سرغايا الحدودية أسفر عن ضبط الشحنة، التي تبيّن أنها تضم كميات كبيرة من قذائف "RPG" وُجدت مخبأة بطريقة منظمة استعدادا لتهريبها عبر الحدود.
طرق التهريب.. القلمون والقصير مجددا
بحسب المصدر الأمني السوري، الذي فضل عدم الكشف عن اسمه؛ لأنه "غير مخول بالتصريح"، تعتمد شبكات التهريب على مسارين رئيسين: الأول يمر عبر القلمون الغربي وريف دمشق، انطلاقا من مناطق مثل يبرود والزبداني وسرغايا، وصولا إلى معابر غير شرعية تؤدي إلى البقاع اللبناني، وهذا المسار، الذي كان يُعد تاريخيا الشريان الأهم لإمداد حزب الله، أعيد تفعيله بأساليب أكثر حذرا، مستفيدا من التضاريس الجبلية والانتشار السكاني المتداخل، كما يقول المصدر.
المسار الثاني، ينطلق من ريف حمص الغربي، وتحديدا من منطقة القصير، التي شكلت لسنوات نقطة ارتكاز لوجستية للحزب. هنا، تستخدم شبكات التهريب طرقا فرعية ووسائل نقل خفيفة، بينها دراجات نارية أو مركبات غير ملفتة، لتجنب الرصد المباشر.
يوضح المصدر الأمني أن "الشبكات لا تعمل كوحدة واحدة، بل كسلاسل منفصلة، كل حلقة تعرف الحد الأدنى فقط، من التخزين إلى النقل ثم التسليم"، ما صعّب تفكيكها في السابق، قبل أن تتغير مقاربة الأجهزة الأمنية مؤخرا.
كيف كُشفت الشبكات؟
وفق المصدر الأمني نفسه، اعتمدت القوى الأمنية السورية على مزيج من الرصد الميداني والمتابعة الاستخبارية طويلة الأمد. يقول: "لم تكن العملية ضربة واحدة، بل نتيجة مراقبة امتدت لأسابيع، شملت تتبع تحركات، ومراقبة نقاط تخزين، وربط معلومات من أكثر من محافظة".
ويضيف أن بعض الكمائن نُفذت بعد التأكد من "لحظة الانتقال" بين التخزين والتهريب، وهي المرحلة الأكثر حساسية، حيث تكون الشحنات جاهزة لعبور الحدود، وهذا ما يفسر ضبط أسلحة وهي مخبأة بطريقة منظمة، أو أثناء نقلها بوسائل بدائية لكنها فعالة.
من الألغام إلى الصواريخ
اللافت في المضبوطات الأخيرة تنوع نوعية السلاح، ما يعكس استمرار حاجة حزب الله إلى إعادة ترميم مخزونه. فقد شملت الأسلحة المضبوطة قذائف "آر بي جي"، وألغاما مزودة بصواعق، وصواريخ مضادة للدروع من طرازات معروفة، إضافة إلى صواريخ قصيرة المدى من نوع "غراد".
يشير المصدر الأمني في هذا الصدد إلى أن "جزءا من هذه الأسلحة يعود إلى مخازن قديمة جرى تفكيكها بعد سقوط النظام السابق، فيما يعود جزء آخر إلى مستودعات أنشأتها ميليشيات مرتبطة بإيران وحزب الله خلال السنوات الماضية".
ويضيف أن بعض الأسلحة "تحمل مؤشرات استخدام حديث، ما يدل على أنها كانت مخصصة للنقل السريع لا للتخزين طويل الأمد".
ويؤكد المصدر أن شبكات التهريب لا تعمل بمعزل عن السياق الإقليمي. فالسلاح الذي يُضبط "ليس فرديا ولا عشوائيا"، بل جزء من منظومة إمداد أوسع. غير أن دمشق، بحسب هذه المصادر، تتعامل مع الملف من زاوية السيادة السورية، لا من زاوية الصراع الإقليمي.
"بالنسبة لنا، أي سلاح يُهرّب خارج سيطرة الدولة هو تهديد مباشر، بغض النظر عن الجهة المستفيدة"، ويقول إن التحقيقات تركز على الشبكات والوسطاء والطرق، لا على تبني روايات سياسية جاهزة.
المشرفون والوسطاء.. الحلقة الأخطر
تكشف التحقيقات الأمنية أن بعض المتورطين ليسوا عناصر ميدانيين فقط، بل وسطاء محليين يمتلكون خبرة بالمنطقة وشبكاتها الاجتماعية. هؤلاء لعبوا دورا محوريا في تأمين الغطاء اللوجستي، مستفيدين من علاقات قديمة مع حزب الله أو مع ميليشيات كانت تنشط في سوريا.
ويشير المصدر إلى أن تفكيك هذه الحلقة تحديدا شكّل إنجازا نوعيا؛ لأنه أدى إلى سقوط شبكات كاملة، لا مجرد شحنات منفردة. "عندما تُقطع حلقة الوسيط، تنهار السلسلة كلها"، بحسب توصيف المصدر الأمني.
تعزيز الرقابة.. وتغيير قواعد اللعبة
في موازاة العمليات النوعية، رفعت السلطات السورية من مستوى الانتشار والمراقبة على طول الشريط الحدودي الغربي. المصدر الأمني تحدث عن زيادة عدد نقاط الرصد، وتكثيف الدوريات، وإعادة توزيع وحدات مختصة بمهام مكافحة التهريب، إضافة إلى تنسيق أوضح بين الأجهزة الأمنية ووزارة الدفاع.
ويؤكد المصدر أن "قواعد التعامل مع التهريب تغيرت"، وأن أي محاولة نقل سلاح تُعامل اليوم كملف أمني خطير، لا كمخالفة يمكن احتواؤها.
تضييق غير مسبوق
تكشف مصادر متابعة لملف تهريب السلاح إلى حزب الله أن الحزب يواجه تضييقا غير مسبوق على أحد أهم شرايين إمداده التقليدية. فالسلاح الذي كان يعبر بصمت، بات اليوم تحت المجهر، والطرق التي اعتُبرت آمنة لسنوات، أصبحت مكشوفة.
وفي الوقت الذي يواصل فيه الحزب التزام الصمت حيال هذه التطورات، تبدو الرسالة السورية واضحة: "الحدود لم تعد مساحة مفتوحة، ومرحلة التساهل مع شبكات التهريب انتهت".
وفي هذا الواقع الجديد، يجد حزب الله نفسه أمام معادلة أكثر تعقيدا، لا تتعلق بإسرائيل وحدها، بل بعلاقته مع الجغرافيا التي شكلت عمقه اللوجستي الأهم.