مسيّرة تستهدف سيارة على طريق بلدة مركبا جنوبي لبنان
لم يعد ملف الهجرة في ألمانيا وأوروبا، بصورة عامة، مجرد ورقة انتخابية يصعد إلى الواجهة خلال الحملات الانتخابية فحسب، بل بات، فضلًا عن ذلك، حديث الساسة والإعلام والنخب الثقافية، كما أن جدل الهجرة امتد إلى الفضاء العام.
ومرد مثل هذا النقاش المحموم بشأن الهجرة يعود إلى أعداد المهاجرين "الهائلة"، وخصوصًا في السنوات القليلة الأخيرة التي شهدت تدفق موجات المهاجرين على القارة العجوز، فألمانيا بمفردها استقبلت في العام 2015 نحو مليون لاجئ، وتكرر الأمر ذاته حين وصل نحو مليون أوكراني، كذلك، إلى البلاد عندما نشبت الحرب، لتتوالى موجات المهاجرين، صعودًا وهبوطًا، بحسب طبيعة التوترات والنزاعات في هذه المنطقة من العالم أو تلك.
ويرى خبراء أن مثل هذه الأعداد الهائلة لم تعد عبئًا يضغط على الجانب الخدمي والاقتصادي والبنية التحتية فحسب، بل باتت تمس نسيج المجتمع الألماني العميق من حيث قيمه وهويته ونمط معيشته، لا سيما مع ضعف الاندماج أو الاختلاط الثقافي، إذ تكافح المجتمعات المهاجرة للاحتفاظ بهويتها وثقافتها وتقاليدها.
وفي ظل هذا الواقع، بدأت تظهر فروقات واضحة خلال النقاشات بشأن القيم والحريات الفردية والتعليم الديني والعادات والأعراف بين المجتمع الألماني المحافظ أو الليبرالي وبين بعض الوافدين القادمين من بيئات أكثر تقليدية.
لكن ما فاقم التباينات والتحديات، وفقًا لخبراء، هو أن أفرادًا من أصول مهاجرة تورطوا، بالفعل، في جرائم جنائية ذات طابع سياسي، عبر هجمات بالأسلحة البيضاء أو الدهس، أو الاعتداءات في محطات المترو والقطارات.
وقد شهدت ألمانيا حوادث عدة من هذا النوع، الأمر الذي مهد لصعود الحزب اليمني المتطرف "البديل من أجل ألمانيا" الذي قفز إلى المرتبة الثانية على مستوى ألمانيا خلال الانتخابات المبكرة الأخيرة التي جرت في فبراير الفائت، كما اضطرت الأحزاب التقليدية إلى تشديد برامجها بشأن الهجرة كي لا تخسر قاعدتها الانتخابية التي باتت تتأفف من ضغوطات الهجرة.
"تهجير" الجريمة.
الإعلام كان دومًا حاضرًا في قلب النقاش بخصوص الهجرة، بل يمكن وصفه بـ"القاطرة التي تقود الرأي العام"، بحسب بعض المدارس الصحافية، ولعل الدور الأبرز الذي لعبه الإعلام ظهر من خلال تغطية "الجرائم" التي يكون المشتبه فيها من أصول مهاجرة، فهل كان هذا الإعلام موضوعيًا ومحايدًا أم منحازًا وانتقائيًا؟
من الملاحظ أن ثمة "اختلالًا إعلاميًا في تغطية الجرائم، فعندما يكون الجاني مهاجرًا، وقد أقدم على جريمته بدوافع سياسية ودينية، تزداد الإشارة إلى أصوله وجذوره، أما عندما يكون الجاني ألمانيًا، فتقل الإشارة لهويته"، وهو ما خلق انطباعًا، ليس دقيقًا بالضرورة، بأن المهاجرين أكثر تورطًا في الجريمة.
هذا الاستنتاج أظهرته دراسة لأستاذ الصحافة الألماني توماس هسترمان تقول إن التغطية الإعلامية في ألمانيا "تميل بشكل واضح إلى تضخيم نسبة المشتبه بهم من أصول مهاجرة، إذ تفوق نسبتهم في وسائل الإعلام ثلاثة أضعاف نسبتهم الفعلية في إحصاءات الشرطة".
الدراسة التي جاءت بعنوان "الجريمة والهجرة: الصورة في وسائل الإعلام الألمانية"، وأنجزت بمساعدة فريق هسترمان من جامعة "ماكرو ميديا" في هامبورغ، تؤكد أن هذه النسبة لم تكن مرتفعة إلى هذا الحد قبل "الهجرات الكبرى" بعد 2014، فمنذ ذلك الحين يلاحظ هسترمان "تشويهاً جسيماً" في وسائل الإعلام الألمانية عندما يتعلق الأمر بالجريمة والهجرة.
ويدعم هسترمان استنتاجاته بأمثلة واقعية، إذ يستشهد، في سياق الدراسة، بهجومين وقعا خلال العام الجاري في ميونيخ ومانهايم الألمانيتين، ففي ميونيخ رجل أفغاني يقتحم حشداً من الناس ويقتل شخصين، وبعد ذلك بوقت قصير في مانهايم: ألماني يقتحم حشدًا من الناس أيضًا، ويقتل ضحيتين بشكل عشوائي، والنتيجة أن ميونيخ شهدت مظاهرة احتجاجية، فيما لا شيء مماثل حصل في مانهايم.
وفقا لهسترمان، فإن القناة الأولى العامة (ARD) بثت في وقت الذروة برنامجًا خاصًا بعنوان (بؤرة ملتهبة) عن الهجوم في ميونيخ، ولكن لا شيء عن الهجوم في مانهايم.
وتلاحظ الدراسة أن التقارير في البرامج التلفزيونية والصحف الألمانية عن الجرائم التي يرتكبها مشتبه به من أصول مهاجرة تكون ضعف عدد التقارير عندما يكون المشتبه به ألمانيًا.
وتصف عالمة الاجتماع والجريمة جينا فولينغر الصورة المشوهة في وسائل الإعلام بأنها "تهجير" للجريمة، بمعنى ربط الجريمة بالمهاجرين.
ويطرح هسترمان في دراسته وصفة بسيطة لتغيير هذا التفاوت في التغطية الإعلامية، إذ يقول إن من المهم أن تصبح غرف التحرير أكثر تنوعًا، وأن يُثري الشباب الذين نشأوا في ثقافات مختلفة فرق التحرير الصحفي، لكن خبراء يرون أن المسألة أعقد من ذلك بكثير، فهي مرتبطة بجملة من العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي ينبغي بذل جهود مضنية في إطارها للوصول إلى تغطية إعلامية متوازنة.
ويوضح خبراء أن التغطية الإعلامية التي تربط المهاجر أو اللاجئ دومًا بالجريمة، وعلى نحو متكرر، تؤدي، في نهاية المطاف، إلى تشكيل انطباع سلبي حتى لو كان غير صحيح إحصائيًا، بمعنى أن التغطية الانتقائية والمتحيزة تخلق قناعات لدى الألمان بأن المهاجرين هم الأكثر تورطًا في الجريمة بنسب لا تتطابق مع الواقع الفعلي.
علاوة على ذلك، فإن التغطية الإعلامية المتحيزة تفاقم الانقسامات، وتغذي الاستقطاب السياسي، ولعل المثال الأوضح لذلك هو صعود "حزب البديل" اليمني خلال فترة زمنية قياسية، فقد تأسس في العام 2013 وبات الآن رقمًا صعبًا ينافس الأحزاب الألمانية التقليدية المكرسة، ولا تفسير لذلك سوى برامجها المناهضة للهجرة.
ورغم ذلك، يحذر خبراء أن مثل هذه التغطية الانتقائية ستفضي إلى تقويض الثقة بالمؤسسات الإعلامية في بلد معروف بصون "حرية الإعلام والتعبير"، فعندما يشعر الجمهور أن الإعلام "يخفي الحقيقة" أو يركز على سردية وهيمة، فإن ذلك يهمش، على المدى البعيد، دور الإعلام في إجلاء الحقائق دون أجندات أو اعتبارات سياسية آنية، وهو ما ظهر في استطلاعات بينت تراجع ثقة الألمان بإعلامهم الذي "لا يقول كل الحقيقة
ولا ينبغي إغفال أن هذه التغطية، بحسب خبراء، تخلق استياءً لدى المهاجرين، الذين يشعرون بأنهم "مهمشون من الدرجة الثانية"، رغم انخراط العديد منهم في سوق العمل الألماني الذي يفتقر إلى اليد العاملة، وهذا يترك تأثيرًا سلبيًا على طموحاتهم وتطلعاتهم لبناء حياة جديدة "دون أدلجة"، فيضطرون إلى العيش في عزلة وانكفاء في وقت يحتاج فيه "عملاق الاقتصاد الأوروبي" إلى خبراتهم وطاقاتهم في العمل.