في الأسابيع التي تلت سقوط النظام السوري السابق، ساد اعتقاد بأن التطبيع الكامل مع الإدارة الجديدة مجرد مسألة وقت، وأن المجتمع الدولي سيتجاوز سريعًا تحفظاته لصالح تعاون براغماتي.
لكن خلال الأسابيع الأخيرة، خاصة بعد الانتهاكات في الساحل في مارس/ آذار، بدأت المواقف الغربية تتسم بوضوح أكبر وتحفظ أشد.
يتصدر ملف المقاتلين الأجانب أولويات الدول الغربية في مقاربتها للعلاقة مع الإدارة السورية، في ظل رفض الأخيرة تقديم حلول جذرية تطمئن السوريين والمجتمع الدولي معًا، غير أن التعمق في هذا الملف يكشف عن تشابكات سياسية وأمنية تتجاوز سوريا، ما يضعف الآمال بإحراز تقدم حاسم فيه.
يشكل المقاتلون الأجانب عنصرًا وازنًا في البنية الأمنية والعسكرية لسوريا ما بعد الأسد، فبحسب التقديرات الغربية، يتراوح عددهم بين 10 و12 ألف مقاتل في صفوف قوى المعارضة التي أسقطت النظام، أي ما يعادل نحو 10 إلى 20% من إجمالي هذه القوات في أواخر عام 2024.
هذه النسبة ليست ضئيلة من الناحية العددية، لكنها تكتسب خطورة أكبر عند النظر إلى البعد النوعي، فهؤلاء المقاتلون يتمتعون بخلفية عقائدية أكثر تطرفًا مقارنة بنظرائهم السوريين الذين ينتمون إلى طيف فكري أكثر تنوعًا، كما أنهم يشكلون نخبة قتالية مخضرمة، إذ أمضى معظمهم قرابة عقد في ساحات المعارك السورية.
ويعود أكبر تدفق لهؤلاء الأجانب إلى السنوات الأولى من الحرب، قبل أن يتراجع بشكل كبير بعد عام 2014 مع صعود تنظيم "داعش" وتشديد الرقابة الدولية على حركة الهجرة إلى سوريا والعراق.
من المهم التنبه على أن الغالبية الساحقة من المقاتلين الأجانب، خاصة الأكثر خبرة بينهم، لا يزالون ينشطون ضمن تشكيلات مستقلة ذات هياكل قيادية ومصادر تمويل منفصلة، ورغم تحالف بعض هذه التشكيلات مع أحمد الشرع، إلا أنها عمليًا تنظيمات عابرة للحدود، تمتلك فروعًا أو أجندات مرتبطة ببلدان أخرى.
أبرز الأمثلة على ذلك هو "الحزب الإسلامي التركستاني"، الذي يُقدّر عدد مقاتليه في سوريا بنحو 3 آلاف، وهو تنظيم نشأ في أفغانستان ولا يزال زعيمه، عبد الحق التركستاني، مقيمًا هناك، بحسب تقرير لفريق مراقبة التنظيمات الإرهابية في الأمم المتحدة صدر في 13 فبراير/ شباط 2025.
كما تنشط "كتيبة التوحيد والجهاد"، المكونة من أوزبك وقرغيز، في سوريا وأفغانستان وبلدان آسيا الوسطى، وسبق أن نفذت تفجيرًا انتحاريًا استهدف السفارة الصينية في قرغيزستان عام 2016. وتشمل قائمة التنظيمات القادمة من وسط آسيا وغرب الصين أيضًا "كتيبة الإمام البخاري"، و"كتيبة الغرباء"، و"اتحاد الجهاد الإسلامي".
ولا يُمكن إغفال الجماعات التي تضم مقاتلين من روسيا، خاصة من الشيشان وداغستان وشمال القوقاز، مثل "لواء المهاجرين والأنصار"، الناشط في سوريا منذ أكثر من عقد، والذي استقطب تنظيمات أخرى بينها "إمارة القوقاز" التي انطلقت من الشيشان.
من زاوية أخرى، أظهرت الأشهر الخمسة التي تلت سقوط نظام الأسد أن الإدارة السورية الجديدة لا تزال تواجه تحديات كبيرة في بسط سيطرتها على كامل البلاد، فقد عجزت عن عبور نهر الفرات باتجاه مناطق سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية"، ولم تتمكن من فرض نفوذها الكامل على أحياء حلب الشرقية الخاضعة للأكراد، كما كشفت المواجهات مع الدروز عن محدودية قدرتها على الحسم العسكري.
وقبيل هذه المواجهات، تقدمت قوات "جيش سوريا الحرة"، العاملة تحت القيادة الأمريكية في قاعدة التنف، عبر بادية محافظتي حمص وريف دمشق، ودخلت مدينة الضمير الواقعة على بُعد 45 كيلومترًا شمال شرقي دمشق، ورغم أن "جيش سوريا الحرة" والولايات المتحدة لم يعلنا رسميًا أسباب هذا التحرك، إلا أن المرجح أنه جاء لسد فراغ أمني وعسكري في هذه المنطقة الحساسة.
يمكن تلخيص المشهد بأن المقاتلين الأجانب الموجودين حاليًا في سوريا يشكلون نخبة قتالية مخضرمة، خاضت المعارك لأكثر من عقد وأثبتت فاعليتها وقدرتها على البقاء، هذه الكتلة يصعب مقارنتها بالتشكيلات الجديدة التي تنضم حاليًا إلى قوات الإدارة السورية، والتي يخضع عناصرها أحيانًا لتدريبات لا تتجاوز عشرة أيام.
كما أن المقاتلين الأجانب حافظوا على تماسكهم الاجتماعي والتنظيمي، في حين لا تزال الانقسامات المناطقية والقبائلية حاضرة بقوة حتى داخل بعض التشكيلات التي شاركت في إسقاط نظام الأسد.
تتعدد المخاوف الدولية من بقاء المقاتلين الأجانب في سوريا، فالتنظيمات التي ينتمون إليها، بخلفياتها العقائدية المتطرفة، قد تسعى إلى تكرار تجربتها القتالية في بلدان أخرى، بما في ذلك بلدانهم الأصلية في آسيا، وأوروبا، وشمال إفريقيا.
حتى في حال عدم انتقال هؤلاء الأفراد خارج سوريا، فإن استمرار وجودهم كتنظيمات مستقلة تملك مواردها وهياكلها التنظيمية قد يشكل مصدر إلهام لآخرين في دول متعددة، ولا يقتصر القلق على احتمالات العمل المسلح، بل يمتد أيضًا إلى احتمال تصدير الخطاب المتطرف والعصبيات الدينية إلى مجتمعات أخرى، خاصة في الدول الأوروبية التي تضم جاليات مسلمة متزايدة.
وتؤكد الأجهزة الأمنية في عدد من هذه الدول، خاصة في ألمانيا والنمسا، في تقارير دورية، انتشار خلايا متأثرة بأفكار تنظيمات إسلامية أجنبية كـ"حزب التحرير" و"حماس".
تخشى الدول الغربية أيضًا من تصاعد خطورة تنظيمات المقاتلين الأجانب في حال اندلاع جولات جديدة من الاقتتال الأهلي في سوريا، أو في حال تفكك الدولة إلى كيانات ذات طابع ديموغرافي مستقل، ففي مثل هذا السيناريو، قد تنشغل الإدارة السورية الجديدة بتحديات أمنية داخلية متعددة، ما يضعف قدرتها على ضبط هذه التشكيلات المنظمة جيدًا.
كما يلوح في الأفق احتمال صدام مستقبلي بين الإدارة وتلك الجماعات، خاصة إذا تصاعدت التباينات العقائدية بين الطرفين، وقد بدأت بالفعل بعض الأصوات بين المقاتلين السوريين تعبر عن تحفظها على سياسات الإدارة، لا سيما فيما يتعلق بما يعتبرونه تراجعًا عن الالتزام الصارم بالشريعة الإسلامية، ورغم أن المقاتلين الأجانب لم يعلنوا موقفًا علنيًا حتى الآن، إلا أنه من المرجح أنهم يشاركون المتشددين السوريين هذه التحفظات.
تفيد التسريبات بأن الإدارة السورية الجديدة أكدت، خلال لقاءاتها مع مسؤولين إقليميين وغربيين، امتلاكها القدرة الكاملة على احتواء ملف المقاتلين الأجانب، بما في ذلك من خلال قواعد بيانات شاملة بأسمائهم ومعلوماتهم، وتبدو الإدارة متمسكة بهؤلاء المقاتلين، إذ منحت العديد من قادة تشكيلاتهم رتبًا عسكرية رفيعة في الجيش السوري الجديد.
وتُشير المصادر إلى أن الإدارة تفضل منحهم الجنسية السورية، تقديرًا لدورهم في إسقاط النظام السابق، وفي مسعى لإغلاق هذا الملف عبر تحويل المقاتلين القادمين من نحو ستين بلدًا إلى مواطنين سوريين، وتراهن الإدارة على تكرار تجربة البوسنة، التي منحت جنسيتها لمئات الجهاديين الوافدين إليها في تسعينيات القرن الماضي.
غير أن المقارنة بين الحالتين تبدو غير دقيقة، سواء من حيث الحجم أم السياق، فعدد المقاتلين في سوريا، الذي يتراوح بين 10 و12 ألفًا، يفوق بكثير أعداد المقاتلين في البوسنة آنذاك، كما أن ظاهرة الإرهاب اليوم أكثر تعقيدًا وخطورة مما كانت عليه في التسعينيات.
استمرار الحكومات الغربية في إثارة ملف المقاتلين الأجانب يعكس عدم اقتناعها بتطمينات الإدارة السورية الجديدة. ومع ذلك، فإن هذه الحكومات لا تملك في الواقع خيارات عملية كثيرة للتعامل مع هذا الملف، فبين المقاتلين الأجانب في سوريا اليوم، عددٌ من الأوروبيين، إلا أن حكوماتهم لا تبدي أي استعداد لاستعادتهم في حال قررت الإدارة السورية ترحيلهم، بل إن بعض الدول الأوروبية سحبت، منذ سنوات، جنسية هؤلاء المقاتلين لمنع عودتهم.
ويُعدّ ملف الأجانب الذين قاتلوا إلى جانب "هيئة تحرير الشام" وحلفائها أكثر تعقيدًا من ملف مقاتلي تنظيم "داعش"، إذ إن الأخيرين معتقلون في شرق سوريا، وتُجرى مفاوضات لنقل بعضهم إلى سجون بلدانهم الأصلية، أما المقاتلون الأجانب المرتبطون بـ"هيئة تحرير الشام"، فهم طلقاء ويتمتعون بنفوذ واسع، وليس من الواقعي تصور أنهم سيستجيبون بسهولة لأي قرار بترحيلهم من سوريا.
يبدو أن ملف المقاتلين الأجانب يشكّل عقدة عصيّة على الحل، ومن المرجح أن يستمر كذلك لزمن غير قصير، فالإدارة السورية الجديدة تبدو منشغلة أولًا باحتواء التحديات الأمنية المتصاعدة في الداخل، وهي مهمة قد تدفعها عمليًا إلى التمسك بالمقاتلين الأجانب، نظرًا لخبرتهم وقدرتهم على القتال، ما يجعل فكرة التخلي عنهم غير واردة حاليًا، بغض النظر عن حجم الضغوط أو الوعود الدولية.