مثل القصف الإسرائيلي الأخير على جنوب قطاع غزة أول خرق واسع منذ إعلان اتفاق وقف الحرب.
عشرات القتلى والجرحى سقطوا في وقتٍ قالت فيه إسرائيل إن العملية جاءت ردًّا على ما وصفته بانتهاكات من طرف حماس، بينما تؤكد الجهات المحلية أن الغارات تجاوزت كل ما تم الاتفاق عليه.
بهذا المشهد تعود الأزمة إلى نقطة البداية، حيث لا ضمانات حقيقية لوقف النار، ولا آلية تمنع الأطراف من تفسير الاتفاق بما يخدم مواقفها السياسية أو العسكرية.
في أعقاب التصعيد، أعلنت إسرائيل أنها ستستأنف الالتزام بوقف إطلاق النار، وأشارت إلى إعادة فتح معبر كرم شالوم بعد إغلاق مؤقت، وذلك للسماح بدخول المساعدات الإنسانية العالقة. هذه الخطوة عكست محاولة لاحتواء الموقف ومنع خروج التفاهم عن السيطرة الكاملة.
الوضع الراهن يعكس أزمة في هيكل التفاهم نفسه، فمنذ اللحظة الأولى، وُقع الاتفاق كترتيب مؤقت بين وسطاء إقليميين ودوليين، غابت عنها جهة رقابة محايدة، ولم يُبنَ على إطار قانوني واضح يحدد المسؤولية في حال وقوع أي خرق.
ولهذا بدا أشبه بـ"استراحة أمنية" بين جولات القتال أكثر من كونه اتفاقاً مستقراً يحمي المدنيين ويفتح الطريق أمام معالجة سياسية أوسع.
وتزامنًا مع استئناف التهدئة، تكثفت الاتصالات الإقليمية والدولية، لا سيما من الجانب الأميركي، الذي أجرى تواصلات مباشرة بهدف ضبط المشهد الميداني وتثبيت خطوط التفاهم.
لكن الموقف الأمريكي حمل أيضًا لهجة نقدية، إذ اتهمت واشنطن حماس بمحاولة "ضبط السيطرة" داخل غزة بطرق تُخالف ما تم التوافق عليه، ما يزيد من تعقيد المشهد الإنساني والأمني في القطاع، وفق تعبير مسؤولين في الخارجية الأمريكية.
تحذيرات من الانهيار
وأفاد دبلوماسي في مكتب المنسق الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط التابع للأمم المتحدة، في تصريحات خاصة لـ"إرم نيوز" بأن التطورات الأخيرة في غزة "أظهرت بشكل واضح هشاشة التفاهمات الميدانية" التي تم تثبيتها بعد وقف إطلاق النار.
وأضاف الدبلوماسي أن "الأمم المتحدة لا ترى حتى الآن أي بنية تنفيذية حقيقية تضمن استقرار الاتفاق أو تحوّله إلى مسار مستدام".
وقال مكتب المنسق قدّم مؤخراً ورقة إلى عدد من العواصم الإقليمية تقترح "تدعيم الاتفاق على جانب تقني متعدد المستويات"، يشمل؛ إنشاء آلية ميدانية دائمة للرصد والمساءلة، وتحديد مساحات فاصلة تُمنع فيها أي أنشطة عسكرية أو أمنية من الطرفين.
وأوضح أن النقاشات التقنية الجارية تتضمن أيضاً وضع تصور أولي لـ"نقاط اتصال ميدانية سريعة" يمكن تفعيلها بشكل عاجل في حال حدوث توتر أو استهداف، مشيراً إلى أن هذه الآلية لن تكون بديلاً عن الرقابة الدولية، لكنها قد تسهم في تجميد التصعيد ريثما يتم تقييم الوضع.
وفي سياق مواز أشار إلى أن الأمم المتحدة تخشى من "تآكل تدريجي في الثقة بين الأطراف الفاعلة، ما سيُفرغ الاتفاق من مضمونه ويحوّله إلى وقف نار رمزي معرض للانهيار في أي لحظة".
وتابع بأن خرق الاتفاق في غزة أعاد التأكيد داخل الأمم المتحدة على الحاجة إلى "إطار تنفيذي ميداني واضح" يعالج الثغرات الميدانية التي أدت إلى التصعيد.
وشدد على أن الأمم المتحدة تُركز على إجراءات ميدانية عاجلة تضمن صمود التهدئة، وحماية الممرات الإنسانية، مع التشديد على أن العودة إلى مسار سياسي أوسع "مرتبطة أولاً بمدى التزام الأطراف بالتهدئة الحالية واحترام الشروط الإنسانية الأساسية".
بدوره، ذكر مصدر دبلوماسي أوروبي رفيع في نيويورك، خلال حديث لـ"إرم نيوز" أن التعامل مع الاتفاق كمسألة تقنية وإنسانية فقط دون تثبيت تفاهمات سياسية موازية كان خطأً جوهرياً في هندسة التهدئة، مشيراً إلى أن بعض الدول الأوروبية دعت إلى توسيع غطاء التهدئة ليشمل التزامات متبادلة واضحة.
وبحسب المصدر، فإن التوجهات داخل مجموعة الاتحاد الأوروبي تؤكد على ضرورة إعادة تعريف شروط التهدئة وآليات مراقبتها، لافتاً إلى أن التصعيد في غزة لن يُعالج بجولات ضغط متقطعة، بل بمسار مستقر يشمل الأطراف المؤثرة فعلياً، وبدعم أممي مباشر.
وأضاف أن التطورات الأخيرة في غزة "أعادت تسليط الضوء على محدودية الأدوات السياسية المتاحة دولياً لضبط التصعيد".
ولفت إلى أن التقديرات الأوروبية ترى أن الاتفاق، بصيغته الحالية، "جرى تحميله أكثر مما يحتمل"، موضحاً أن الاتفاق توقف عند الحدّ الإغاثي ولم يُدعّم بخطوات سياسية شاملة تضمن الاستقرار، سواء في الشق الأمني أو في التعامل مع الوضع الداخلي في غزة.
كذلك حذر المصدر الدبلوماسي من أن استمرار التعامل مع غزة كملف أمني فقط "سيُنتج تهدئات مؤقتة سرعان ما تنهار"، لافتاً إلى أن "الخطر الأكبر حالياً يتمثّل في تحوّل الخروقات المتكررة إلى وضع طبيعي، يفقد أي مبادرة سياسية معناها".
وأوضح أن الاهتمام الأوروبي في هذه المرحلة "ينصبّ على تثبيت الوضع الميداني ومنع انزلاقه، وليس على فتح مسارات تفاوضية جديدة"، مضيفاً أن بعض الحكومات الأوروبية "تنظر بجدية في إمكانية دعم آلية أممية مصغّرة تُعنى بتقديم تقارير فنية دورية عن تطورات التهدئة، تكون مرجعاً ميدانياً قبل حصول أي تصعيد محتمل".
وبشأن الدور الإقليمي، أوضح المصدر أن الدول الأوروبية "تتابع عن كثب التنسيق القائم بين عدد من العواصم العربية والأمم المتحدة"، واصفاً هذا التنسيق بأنه "العنصر الأهم حالياً في الحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار".
ورأى أن المنظمة الدولية "تتحرّك ضمن هوامش ضيقة"، مضيفاً أن "الجهد الذي يبذله مكتب المنسق الخاص يحظى بتقدير أوروبي، لكن لا يمكن تحميله أكثر مما يستطيع تنفيذه دون دعم ميداني مباشر من الأطراف المؤثرة".
وختم المصدر بالتشديد على أن "استقرار الوضع في غزة يُقاس بوجود آلية واضحة لتفادي التصعيد، وهذا ما يجب أن يُبنى عليه في المرحلة المقبلة".
لا صمود دون ضبط ميداني
الباحث السياسي الألماني، فرانك روتنبرغ، المتخصص في شؤون النزاعات والأمن، اعتبر خلال حديثه لـ"إرم نيوز" أن الخلل في خرق الاتفاق يكمن في غياب أي هيكل متماسك يُديره فعلياً.
وأضاف روتنبرغ: "منذ اللحظة الأولى، كان الاتفاق هشّاً دون مرجعية تنفيذية أو إطار زمني واضح لمراقبة التطبيق أو معالجة الخروقات، وهذا النمط، يدفع باتجاه تصور خطير أن التهدئة مجرد فراغ مؤقت بين موجتين من التصعيد، وليس تهدئة الوضع على المدى المتوسط".
ورأى أنه "من الناحية السياسية، يصعب على الفاعلين الأوروبيين التأثير ميدانيًا، لكنّ المسؤولية تقع على العواصم الفاعلة في المشهد الدولي والإقليمي لإعادة تعريف أدوات إدارة الاتفاق".
واستطرد: "لا أقول هنا تشكيل قوات مراقبة أممية أو هندسة معقدة، بل على الأقل الاتفاق على قواعد إبلاغ سريعة، ومهلة زمنية إلزامية قبل تنفيذ أي رد ميداني، وخط اتصال طارئ فعّال بين الوسطاء والأطراف المتنازعة. من دون هذه الأدوات، فإن كل حديث عن ضبط التوتر سيبقى رهين نوايا سياسية لا تُترجم عملياً".
ولفت إلى أن الأولوية الآن في ملف غزة يجب أن يكون في منع التفاهم القائم من الانهيار الكامل. "لذلك فإن دعم أي صيغة أممية – إقليمية للرقابة الميدانية قد يكون خطوة عملية واقعية، دون الحاجة إلى إعادة صياغة سياسية شاملة في هذه المرحلة".
وأضاف روتنبرغ أن الإشكالية لا تتعلق فقط بغياب أدوات الرقابة، وإنما بتراكم انعدام الثقة بين الفاعلين، قائلاً إن "كل خرق غير موثّق يتحول إلى نقطة تراشق، وهذه ديناميكية خطيرة، لأنها تُغلق الباب أمام أي مراجعة موضوعية، وتُنتج بدلاً منها ردوداً تلقائية لا تتيح نزع فتيل الأزمة".
واعتبر أن أحد أخطر ما في المشهد الحالي هو "التعوّد السياسي على فكرة أن الخروقات جزء طبيعي من التهدئة، وكأنها مجازفة محسوبة ضمنياً"، محذراً من أن "هذا النمط إذا تُرك دون معالجة، سيُفرغ مفهوم الاتفاق نفسه من مضمونه".
التهدئة بلا أدوات
من ناحيته رأى المحلل السياسي باسل علوان، الخبير في الديناميكيات الإقليمية، في حديثه لـ"إرم نيوز"، أن وقف إطلاق النار في غزة لم يُبنَ على قاعدة صلبة، بل استند إلى تفاهم هشّ يفتقر إلى الأدوات التي تمكّنه من امتصاص الصدمات أو استباق الانفجار.
وأوضح علوان أن ما جرى يؤكد مرة أخرى أن السياسة في غزة تُدار بمنطق ردّ الفعل وليس بمنطق الإدارة الوقائية، حيث لا توجد آلية تنسيق فورية، ولا اتفاق ميداني واضح حول كيفية التعامل مع الحوادث أو معالجتها في الوقت المناسب، لذلك، فإن أي توتر محدود يمكن أن يتحوّل إلى اشتباك مفتوح، وغالباً ما تُستأنف الوساطات من نقطة الصفر، وكأن كل جولة تفاهم تتلاشى كلياً بعد أول اختبار ميداني"، وفق وصفه.
وأضاف أن ما يضاعف من خطورة المشهد هو أن الأطراف الراعية للتهدئة يبدو أنها تتعامل معها كحالة مؤقتة، دون ضمانات مكتوبة أو آلية مساءلة عملية، مما يفرغ الاتفاق من أي مضمون فعلي، وفق تعبيره.
وأضاف أن "النتيجة المباشرة لذلك أن السكان المدنيين يدفعون ثمن تفاهمات لا تملك أدواتها، وتنهار تحت ضغط أول حادث، في غياب أي قدرة على الاحتواء السريع".
وأكد علوان أن النقاش الجاد اليوم لا يجب أن يدور حول تقييم نوايا الأطراف، بل حول تطوير الحد الأدنى من أدوات الضبط الميداني.
وتابع: "المطلوب خطوات قابلة للتطبيق الفوري، مثل إنشاء قناة اتصال سريعة بين الوسطاء والفاعلين الميدانيين، وتشكيل فريق تحقق مشترك، ووضع سقف زمني لأي رد عسكري مفترض، ومن دون هذه الإجراءات، فإن التهدئة ستبقى عرضة للانفجار المتكرر".
وأشار إلى أن الاستقرار في غزة يأتي من خلال منظومة فنية واضحة تُنفَّذ بسرعة عند كل توتر، مشدداً على أن القوى الإقليمية أمام اختبار فعلي لا يتعلق بالوساطة، ولكن بالقدرة على فرض ضوابط تمنع الانهيار بدل انتظار حدوثه.