ترادفت على روسيا أزمات انهيار أسعار النفط وأعباء جائحة الكورونا، لتجعل من الملف السوري "صُداعا" في رأس الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وقضية ثانوية بالنسبة لموسكو، ولتجعل بوتين يوعز لأدواته الإعلامية بأن تجْهر بعدم رضاه عن بعض سلوكيات الرئيس السوري بشار الأسد، وتعنته في الوصول إلى اتفاق مع المعارضة ينهي أزمة تطول بدون مبرر كافٍ. الموقف الروسي من نظام الأسد تغير مع بدايات عام 2020، ولا بأس من مراقبة ما سيستجد".
بهذا المضمون خرجت وكالة "بلومبيرغ" الأمريكية، اليوم الثلاثاء، بتقرير استقصائي قرأ في سلسلة التسريبات التي خرجت من موسكو خلال الأسابيع القليلة الماضية، ما يضيء على مستجدات الملف السوري في مراوحته بشبكة العلاقات مع إيران وإسرائيل وحزب الله وتركيا، وفي الأمم المتحدة أيضا.
وتنقل "بلومبيرغ" عن أربعة شخصيات من ذوي الاطلاع على مداولات الكرملين بشأن العلاقة بين بوتين والأسد، أن هذه العلاقة المتسمة بالتوتر أو الصراع، والتي دامت حتى الآن حوالي عقد من الزمن، دخلت مؤخرا مرحلة جديدة مختلفة، في الضغط على الأسد لإظهار المزيد من المرونة في المحادثات مع المعارضة السورية بشأن تسوية سياسية
أسباب صداع بوتين من الأسد وحاشيته
وقد أثار رفض الأسد التنازل عن أي سلطة مقابل اعتراف دولي أكبر، وربما مليارات الدولارات من مساعدات إعادة الإعمار، خرجات إعلامية روسية نادرة ضده، ظهرت في وسائل إعلامية روسية لها روابط مع بوتين.
وتنقل بلومبيرغ عن ألكسندر شوميلين، الدبلوماسي الروسي السابق الذي يدير مركز أوروبا والشرق الأوسط الممول من الدولة في موسكو، قوله: " الكرملين يحتاج إلى التخلص من الصداع السوري". "المشكلة تكمن في شخص واحد - الأسد - وحاشيته".
ويضيف التقرير أن غضب بوتين وغموض الأسد يسلطان الضوء على معضلة روسيا في كون الجانبين يعلمان أنه لا يوجد بديل للزعيم السوري في التوصل إلى اتفاق. وفي حين استخدم بوتين تدخله الناجح في سوريا عام 2015 لاستعادة نفوذ روسيا في الحقبة السوفيتية كلاعب رئيسي في الشرق الأوسط، فقد قام الأسد بالمناورة بين موسكو وداعمه العسكري الرئيسي الآخر، إيران، للاحتفاظ بقبضته على السلطة.
كما استفاد الأسد من القوة العسكرية والدبلوماسية الروسية ضد جهود تركيا لتوسيع وجودها في المناطق المتبقية التي تسيطر عليها المعارضة في شمال سوريا، بينما يسعى لاستعادة السيطرة على البلاد بأكملها بدعم من بوتين.
دبلوماسية النقد العلني
على المستوى الرسمي البروتوكولي، نفى المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، أن يكون بوتين غير راضٍ عن الأسد لرفضه المهادنة مع المعارضة السورية في التفاوض على تسوية سياسية. لكن الانتقاد العلني للأسد جاء بمثابة تغيير حاد في النهج الروسي، كما سجّل التقرير.
فقد نشر منبر إعلامي يرتبط مع يفغيني بريغوزين، المعروف باسم "شيف بوتن"، بسبب امتلاكه لعقود تقديم الطعام في الكرملين، مقالًا عبر الإنترنت يهاجم الأسد ويصفه بالفساد. وتضمن المقال إشارة إلى استطلاع يُظهر أن الأسد يحوز على دعم لا يزيد على 32٪، وأدرج المقال عددًا من البدائل المحتملة من داخل النظام السوري والمعارضة. لكن المقال اختفى بسرعة من موقع وكالة الأنباء الفيدرالية.
وبعد أيام، نشر مجلس الشؤون الدولية الروسية، وهو مركز أبحاث للسياسة الخارجية أنشأه الكرملين، تعليقًا ينتقد الحكومة في دمشق باعتبارها تفتقر إلى "نهج بعيد النظر ومرن" لإنهاء الصراع. وقال ألكسندر أكسينيونوك، الدبلوماسي الروسي السابق ونائب رئيس المجلس، الذي كتب التعليق، في مقابلة هاتفية: "إذا رفض الأسد قبول دستور جديد، فإن النظام السوري سيعرض نفسه لخطر كبير".
رسالة قوية
وتنقل بلومبيرغ عن شخص مقرب من الكرملين قوله إن المنشورين يشكلان رسالة قوية إلى القيادة السورية.
وقال شخص آخر مقرب من الزعيم الروسي: إن بوتين ينظر إلى الأسد على أنه شخصية عنيدة أثبتت خيبة أمله، وأنه جرى استخدام وسائل الإعلام المرتبطة ببريجوزين لنقل هذه الرسالة.
لكن المشكلة بالنسبة لموسكو هي أنه لا يزال "يتعذر التخلي عن الرئيس السوري؛ لأنه لا يوجد حليف آخر حقيقي في سوريا".
ولاحظ التقرير أنه لم يكن هناك رد فعل سوري رسمي في دمشق، ولم تذكر الصحف السورية، التي تسيطر عليها الدولة، أية إشارة للانتقادات الروسية. كما لم يرد سفير سوريا في موسكو رياض حداد على طلب من بلومبيرغ، بالبريد الإلكتروني، للتعليق
انسداد الجهود الدولية
وتنقل الوكالة قول أكسينيونوك، عضو نادي فالدياي للحوار، إن المحادثات التي تقودها الأمم المتحدة في جنيف بشأن إعادة صياغة الدستور السوري لإدخال بعض المرونة السياسية عليه، دخلت سريعا في طريق مسدود عندما قام الجانب الحكومي "بتعطيل المفاوضات.
كما تنقل قول دبلوماسي يتابع الملف السوري: إن تحذيرات موسكو تعكس الإحباط بين مجتمع الأعمال الروسي من دخول الاقتصاد السوري حالة الفشل. وبرأيه فإن روسيا تدرك مدى صعوبة الوضع في سوريا، مع فشل الأسد في توفير السلع الأساسية بسبب جائحة كورونا، إضافة إلى مشكلة ما يصفها بـ" الشبكات الفاسدة التي تُهدد بالتمرد في بعض مناطق سوريا".
تعقيدات سيكولوجية التفشيل
ويُقدّر جوست هيلترمان، مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجموعة الأزمات الدولية ومقرها بروكسل، أن "الأسد كان دومًا عنيدًا في مواجهة الضغط الروسي؛ لأنه يعرف أن سوريا أكبر من أن تدعها روسيا تفشل". وقال: إن "ما يبدو أنه حملة إعلامية روسية غير مسبوقة بموافقة الحكومة ضد الأسد، ربما يعكس الإحباط في موسكو تجاه الأسد بعد أن تراجع موقع سوريا في قائمة الأولويات بالنسبة لبوتين".
وبحسب إيرينا زفيياجيلسكايا، خبيرة شؤون الشرق الأوسط في معهد الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية الذي تديره الدولة، فإن روسيا، التي تحتفظ بمنشأة بحرية وقاعدة جوية في سوريا وأرسلت شرطة عسكرية لتسيير دوريات في المناطق التي كانت تسيطر عليها الميليشيات ووصلات الطرق الرئيسية، تتمتع ( موسكو) ببعض النفوذ، لكنها ستخاطر بشدة إذا حاولت الإطاحة بالأسد.