مدير منظمة الصحة العالمية يدعو إسرائيل إلى وقف "كارثة" المجاعة في غزة
برحيل زياد الرحباني، لا يغيب فقط ملحن ومسرحي بارع، بل ينطفئ صوتٌ لطالما غنّى الوحدة والخذلان واليأس بصوت ساخر وجارح في آنٍ معاً.
كان زياد، ابن فيروز وعاصي، أشبه بعازفٍ يسير على الحافّة. لم يسعَ يوماً لنجومية سهلة، بل غاص في الألم الشخصي ليصنع منه موسيقى قاسية ومسرحاً صريحاً لا يُجامل أحداً.
في كلماته، كما في نغماته، ظلّ الإنسان بداخله يفتّش عن معنى ما وسط ضجيج وطنٍ ينكسر، وعلاقات تُخدَش، ومدينة تُشبهه في فوضاها.
في لقاءاته النادرة، تحدّث زياد عن الاكتئاب، عن شعور العزلة، عن خوفه من التكرار، وعن صراعه مع ذاته أكثر مما صارع أي خصم سياسي..
بدا أحيانًا كأنه لم يُشفَ من انكسار الطفولة ولا من عبء الاسم الذي يحمله.
أحبّ زياد أن يراقب، لا أن يتصدّر.. أن يتهكّم، لا أن يُصفّق.. أن يكتب عن الخيبة، لا عن النصر... وفي كل هذا، منحنا مرآة نرى فيها "هشاشتنا" لا بطولاتنا.
زياد الرحباني لم يكن مجرد فنان، بل كان حالة شعورية تمشي بين الناس. رجل كتب عن الخيبة كما تُكتب رسائل الاعتراف، ولحّن الحزن كأنّه يعرفه عن قرب.
في أغنية "بما إنّو"، يقول زياد: "بما إنّو كلّ شي عم بيخلص، خلّي هالعلاقة تخلص هلّق".
لم تكن مجرد كلمات عابرة، بل اعتراف داخلي لرجل أنهكته العلاقات المتعبة، والانتظارات التي لا تأتي. زياد لم يكتب عن الحبّ المنتصر، بل عن الحبّ الذي يُكابر، الذي ينهار، ثم يُكمل حياته كأن شيئًا لم يكن.
كان صوته في "أنا مش كافر" موجوعاً، لا غاضباً.. رجل يحاول أن يثبت للعالم أنه "مش كافر"، لكنه فقط "تعبان". في هذه الجملة تحديدًا، لخص زياد عمق ألمه.. فهو لم يكن في حربٍ مع الناس، بل مع نفسه، ومع ما لم يفهمه فيه الآخرون.
حتى في مسرحيته الشهيرة "بالنسبة لبكرا شو؟"، لم يقدّم بطلاً كلاسيكياً، بل شاباً تائهاً، عاجزاً عن مجاراة بلد يعيش فيه الكذب بشكل طبيعي، بينما تُعتبر الصراحة "قلة تهذيب".
زياد كان يحمل اكتئابه مثل حقيبة صغيرة لا يراها أحد.. يتحدث عنه ببساطة، وكأنه يصف طقس اليوم: "ما عم نام منيح، وما عم اشتغل، بس مش زعلان".
رحل الرجل الذي جعلنا نضحك من قسوتنا، ونبكي من نكاته. لم يكن يصنع الفن ليبهج، بل ليقول الحقيقة.. كما هي، دون تزيين.
برحيله، رحل صوت الذين لا يتكلمون، لكنه قال عنهم كل شيء.
مبدعٌ قال أوجاعنا قبْل أن نملك الجرأة على البوح بها.
زياد لم يكن صوت الجموع، بل صوت الذين يجلسون بصمت في الزوايا.. أولئك الذين يعرفون أن "الحزن" ليس نقيض الموسيقى، بل جزءٌ منها.