أثار السّجال الأخير الذي أطلقه إيلون ماسك عبر منصة "إكس" ضد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اهتمام المحللين، الذين يرون في سلوك الملياردير المفرط في النشر إشارات أعمق تتعلق بالنفوذ والعاطفة والسيطرة في العصر الرقمي.
فخلال ثلاث ساعات متواصلة يوم الخميس الماضي، نشر ماسك وأعاد النشر وردّ على منشورات بوتيرة محمومة على المنصة التي يملكها، مهاجمًا ترامب بشراسة.
ومن بين تعليقاته اللافتة وصفه لمقترحات ترامب السياسية بأنها "مقززة"، ونعته بـ"ناكر الجميل"، وتشكيكه في أهليته الذهنية لتولي المنصب.
وبحسب تقرير نشره موقع "هافنغتون بوست"، تشير بيانات المتابعة إلى أن ماسك تفاعل مع نحو ثلاث منشورات في الدقيقة الواحدة خلال تلك الفترة.
ويمثل هذا الانهيار العلني تحولًا حادًا في موقف ماسك، الذي كان يصف نفسه سابقًا بأنه "الصديق الأول" لترامب. إلا أن نوبات ماسك المتكررة وغير المتوقعة على الإنترنت ليست جديدة، رغم أنه يشغل مناصب تنفيذية في أربع شركات هي: تسلا، وسبيس إكس، ونورالينك، وxAI، إلى جانب ملكيته لمنصة "إكس".
جاء رد فعل الأسواق سريعًا؛ إذ هبطت أسهم تسلا بنسبة 14% في اليوم نفسه، وهو أكبر تراجع خلال نحو ثلاثة أشهر. وعلى الرغم من اعتياد المستثمرين على تقلبات ماسك الإلكترونية، فإن الخبراء يحذرون من أن منشوراته، بحكم ثروته الهائلة وملكيته للمنصة وتأثيره السياسي، تتجاوز حدود الخلافات الشخصية.
وقالت إيزابل جيرارد، المحاضِرة في الإعلام الرقمي بجامعة شيفيلد: "سلوك ماسك له تداعيات سياسية خطيرة، لكنه أيضًا يلامس بعدًا شخصيًا لأننا جميعًا نتابع شخصيات 'تعيش على الإنترنت' باستمرار".
ولا تزال دوافع ماسك لهذا الهجوم العلني المفاجئ غير واضحة، لكن تقارير إعلامية تشير إلى توتر متراكم بينه وبين ترامب، بلغ ذروته بعد أن رفض الأخير تعيين مرشح ماسك المفضل لرئاسة وكالة ناسا.
ووفقًا لما نقلته "نيويورك تايمز"، فقد شعر ماسك بالإهانة، وهو ما يعتقد الخبراء أنه ربما دفعه للانفجار العلني.
يشير خبراء إلى ظاهرة شائعة في السلوك الرقمي تُعرف باسم "النشر خلال الانفعال". سواء كانوا شخصيات عامة أو أفرادًا عاديين، يلجأ كثيرون إلى مشاركة محتوى عاطفي أو عدائي كوسيلة للتنفيس.
وتوضح الطبيبة النفسية في جامعة ستانفورد، آنا ليمبكي، أن البحث عن التقدير من جمهور واسع على الإنترنت قد يكون أكثر إرضاءً من الدعم القادم من الأصدقاء أو الأسرة.
وقالت ليمبكي: "التحفيز الناتج عن التقدير الاجتماعي عبر الإنترنت أقوى من نظيره الواقعي، لأنه يفتقر إلى تعقيد العلاقات الشخصية الحقيقية التي تتطلب الأخذ والعطاء". وأضافت: "على الإنترنت، يمكننا ببساطة حظر أو تجاهل من لا يعجبنا، والبقاء ضمن دوائر مريحة".
هذا النمط قد يهدف أيضًا إلى السيطرة على الرواية. فالنشر المستمر يتيح للأفراد، وخاصة أصحاب النفوذ، تشكيل الانطباع العام في اللحظة ذاتها.
وتقول ليمبكي: "من ينشر أكثر، ويحصل على عدد أكبر من الإعجابات وإعادة النشر، يشعر بأنه يتحكم بالسرد التاريخي للأحداث".
وفي السياق نفسه، أشارت المعالجة الزوجية تريسي روس إلى أن سلوك ماسك يعكس أنماطًا معروفة في العلاقات العاطفية المنهارة. وقالت: "كان من المفترض أن يكون منقذ البلاد.. فقدانه لهذا الدور قد يكون مدمرًا". وأضافت أن التنفيس العلني عبر الإنترنت قد يكون وسيلة للتهرب من مراجعة الذات أو تحمل المسؤولية.
يعكس أسلوب ماسك في النشر المستمر أيضًا طبيعة منصة "إكس"، التي تشجع التفاعل المتكرر والنقاش السريع. وتوضح جيرارد أن "المنصة صممت لتجذب المستخدمين النشطين باستمرار، وهذا ليس مصادفة".
في المقابل، فإن منصات مثل إنستغرام تفضل المحتوى المنسّق والجميل بصريًا، ولا تحتفي بالتعبير الخام أو الانفعالي.
لكن حتى ماسك يبدو أنه بلغ حدًا معينًا. فقد حذف خلال عطلة نهاية الأسبوع عدة منشورات شديدة اللهجة، بينها ادعاءات غير موثقة تربط ترامب بملفات غير منشورة تتعلق بجيفري إبستين، إلى جانب مطالبته بعزل الرئيس.
وترى روس أن حذف تلك المنشورات قد يشير إلى شعور بالندم أو إلى محاولة لإعادة تقييم الموقف. لكنها تحذر من أن "ذلك قد يُفسَّر كاعتراف بتجاوز الحد، ومع شخصية مثل ترامب، قد يؤدي ذلك إلى رد فعل انتقامي".
وبالفعل، صعّد ترامب من لهجته لاحقًا، مهددًا بـ"عواقب خطيرة جدًا" إذا ما قرر ماسك، أحد أكبر ممولي الحزب الجمهوري، دعم الديمقراطيين.
رغم حذف بعض المنشورات، لم يتراجع ماسك بالكامل. فبينما يواصل التعبير عن تأييده لعدد من سياسات الهجرة التي أُقرت في عهد ترامب، لم يتراجع عن كثير من انتقاداته. والأهم أن أياً من الرجلين لم يعتذر علنًا حتى الآن.
ويرى المراقبون أن هذا الخلاف العلني بين رئيس وأغنى رجل في العالم يكشف مدى تداخل النفوذ السياسي مع مسرحيات وسائل التواصل الاجتماعي.
وفي حين تنتهي معظم الخلافات العاطفية بخسارة علاقات أو مقتنيات، فإن هذه المواجهة قد تغير مسار انتخابات وطنية أو تعيد تشكيل المشهد السياسي والاقتصادي.
وبينما يواصل الطرفان النشر دون تصالح، تبقى الأنظار معلقة على الشاشة: ماذا سيقول أحدهما، أو كلاهما، بعد ذلك؟ وبأي ثمن؟