في زمن انشغل فيه الآباء والأمهات عن أبنائهم، تغيّر مفهوم التربية، وأصبح كثير منهم يعتقدون أن الحب وحده كافٍ لإنشاء طفل سعيد.
لكن الحقيقة أن الإغراق في منح الطفل الحب دون ضوابط وهو ما يشكل جوهر "التربية المتساهلة"، قد يكون السبب الأول في تدمير شخصية الطفل ومستقبله.
وفي هذا السياق، توضح شيماء جيلاني الاختصاصية في التوجيه والإصلاح الأسري، أن التربية ليست مجرد حب واهتمام، بل هي عملية متكاملة تهدف إلى بناء شخصية الطفل من جميع الجوانب النفسية والاجتماعية والسلوكية.
وتوضح جيلاني مفهوم "التربية الوالدية" التي تُعرَّف بأنها العملية التي يقوم من خلالها الوالدان بتوجيه أبنائهما وتنشئتهم لتكوين شخصية سوية لكل منهم.
وتشمل هذه العملية تزويد الأطفال بالمهارات والمعارف المتعددة، ورعايتهم صحيًا ونفسيًا واجتماعيًا وبدنيًا ودينيًا.
ووفقاً لجيلاني تبدأ مرحلة التربية منذ ولادة الطفل وتستمر حتى بلوغه، وتشير العديد من الدراسات إلى أن 90% من شخصية الطفل تتكوَّن في مرحلة الطفولة المبكرة (من 3 إلى 6 سنوات)، لذا فهي فترة حاسمة تتطلب اهتمامًا خاصًا من الوالدين.
إلا أنه في هذا العصر تغيّر مفهوم التربية، خصوصًا مع انشغال الوالدين وتراجع دورهما في حياة الطفل.
فيسعى البعض، بشكل غير واعٍ، إلى تعويض غيابهم بتقديم الحب والاحتواء المفرط بدافع الشعور بالذنب، بينما يتبع آخرون أسلوب التربية المتساهلة بدافع الحب والرغبة في تجنّب القسوة التي عانوا منها في طفولتهم.
وبحسب جيلاني، التي حذرت من أن هذا النوع من التربية يحمل في طياته بذور الخطر التي تهدد شخصية الطفل ومستقبله على المدى البعيد، فالتساهل المفرط لا يُنشئ طفلًا سعيدًا كما يظن البعض، بل يُنتج جيلًا هشًا ضعيفًا أمام التحديات والمسؤوليات.
وتوضح جيلاني أنواع أنماط التربية بحسب تصنيف الباحثة ديانا بومريند، التي تُعدّ من أوائل من صنّفوا أنماط التربية إلى أربعة أنماط رئيسة:
وتتميز بحزم مرتفع ودفء منخفض ينتج عنها القسوة والصرامة الزائدة.
تتميز بدفء مرتفع وضبط منخفض ينتج عنها حب بلا حدود أو قواعد.
من أهم سماتها دفء منخفض وضبط منخفض ينتج عنها غياب الحب والاهتمام.
تقوم على دفء مرتفع وضبط مرتفع ينتج عنها الحب مع الحزم، وهو النمط الأفضل والأكثر توازنًا وصحة.
وتحدثت جيلاني عن آثار التربية المتساهلة، التي توصف بأنها "حب بلا انضباط"، ويقوم مفهومها على منح الطفل حرية مطلقة دون ضوابط واضحة، مع تجنب العقاب أو المحاسبة بدعوى الحفاظ على نفسيته. ويتجنّب فيها الوالدان قول "لا" خوفًا من كسر مشاعر الطفل، ويستجيبان لجميع رغباته، وإن كانت غير منطقية.
فينشأ الطفل معتادًا على الأخذ بلا حدود، متوقعًا أن يدور العالم حوله كما يفعل والداه.
وتشير جيلاني إلى أنه يترتب على هذا النمط من التربية آثار نفسية وسلوكية متعددة، أهمها:
ضعف تحمّل المسؤولية.
عدم الالتزام بالقوانين.
الأنانية المفرطة.
وأوضحت أنه عادة ما يُظهر هؤلاء الأطفال صعوبة في أداء المهام المدرسية أو الالتزام بالواجبات، ويواجهون مشكلات في تكوين صداقات وعلاقات اجتماعية سليمة، بسبب أنانيتهم وقلة احترامهم للآخرين.
ومن أخطر النتائج انخفاض الدافعية والطموح؛ فالطفل الذي يحصل على كل ما يريد دون جهد لن يتعلم قيمة الكفاح، ولن يشعر بلذة الإنجاز. وعندما يكبر ويواجه الفشل أو الرفض، ينهار نفسيًا لأنه لم يختبر الانضباط أو الصبر.
وتؤكد جيلاني أن "التربية المتوازنة" هي الحل، مشيرة إلى أن التربية السليمة ليست قسوة ولا تساهلًا، بل هي توازن بين الحزم والرحمة.
فالحزم لا يعني الشدة أو رفع الصوت أو العقاب الجسدي، بل يعني وضع قواعد ثابتة تُشرح للطفل بلغة هادئة وواضحة.
وعند رفض طلبه، يجب توضيح السبب حتى يتفهمه ويشعر بالانضباط لا بالرفض. وعندما يرتكب الطفل خطأً، علينا توجيهه لتصحيح السلوك بدلًا من التهاون معه.
كما ينبغي منح الطفل مساحة حرية محسوبة ومدروسة تساهم في تطوير إبداعه وتعزيز ثقته بنفسه، وتساعده على اتخاذ القرارات وحل المشكلات مستقبلًا، بحسب الاختصاصية.
وتختم جيلاني بتوضيح أنه قد تبدو التربية المتساهلة في ظاهرها حنونة، لكنها في جوهرها تمثّل تخلّياً غير مقصود عن الدور التربوي الحقيقي للوالدين، مؤكدةً أن دور الوالدين هو تربية الأبناء ليصبحوا أفرادًا فاعلين منتجين في المجتمع، قادرين على تحمل المسؤولية، ومواجهة التحديات، وإيجاد الحلول للمشكلات، وبناء أسرة سليمة وصحية في المستقبل.