رغم أن الظاهرة ليست جديدة، إلا أن أعداد الأطفال المشردين في شوارع دمشق تشهد ازديادًا مستمرًا، ما يفتح الباب أمام كارثة اجتماعية متفاقمة تتجاوز مجرد التشرد، لتشمل التعرض للأمراض، والانحرافات، والسلوكيات الخطرة.
وفي قلب العاصمة، وتحديدًا في حديقة "المنشية"، المعروفة بتنوع مرتاديها، وتناقض مشاهدها اليومية، يمكن رؤية مشرَّدين من الأطفال والمسنين، ومتسولين، وعشاقًا للسكينة، وآخرين هاربين من واقع مرير، يتشاركون المكان ذاته ولو لوقت قصير.
تحت ظلال أشجار الكينا، تُنسج القصص، لكن أعنفها هو الواقع الذي يعيشه هؤلاء الصغار؛ بعضهم فقد والديه في الحرب، وآخرون بلا أصل معروف، جميعهم بلا معيل، معرَّضون للاستغلال، والانجراف في مسارات خطيرة.
باتت الحدائق والجسور مأوى دائمًا لهؤلاء الأطفال، في ظل غياب واضح للحلول الجذرية، وسط تحذيرات من أن ما ينتظرهم قد يكون أخطر بكثير مما يظهر على السطح.
واستطاعت كاميرا "إرم نيوز" التقاط مشهد عدة أطفال يشكلون دائرة، وهم يتناوبون على "كيس الشعلة" وينهمكون في استنشاقه بعمق، وهو ما يُعد مادة سامة قاتلة.
ولمن لا يعرف مادة الشعلة، فهي عصارة تحتوي على مادة لاصقة مصنعة من مواد كيميائية، يتم تفريغها داخل كيس نايلون أبيض شفاف، ثم يُنفخ الكيس حتى يمتلئ بالهواء، ليضع الطفل فتحة الكيس على فمه، ويدخل الهواء مباشرة إلى رئتيه.
عند الاقتراب من الأطفال وسؤالهم عمّا يفعلونه، يجيبون دون تردد أنهم يستنشقون الشعلة، وعلى الرغم من شرح مخاطر هذه المادة الكيميائية السامة لهم، يضحكون ويطلبون منّا شراء بعض الطعام لهم.
وتجرَّأ الطفل حسين على الظهور أمام الكاميرا والحديث عن إدمانه على استنشاق لاصق الشعلة، قائلاً: "أشعر بالراحة، وكأنني أطير عن الأرض، الشعلة جيدة ولها فوائد كثيرة بالنسبة إلينا، فهي تجعلنا نتحمل مشاق العيش في حديقة تعجّ بالناس الذين ينظرون إلينا باشمئزاز ورفض".
ويضيف بعضهم أن أفراد عائلاتهم ماتوا في في الحرب، فيما يؤكد آخرون أنهم لا يعرفون من هم آباهم، لكن جميعهم يظهرون غضبهم بسبب صعوبات الحصول على الطعام، والتعامل القاسي من قِبل الناس.
ويُذكر أن لاصق "الشعلة" عبارة عن مادة غرائية شديدة السُمية، ذات رائحة نفاذة نتيجة احتوائها على مواد كيميائية مركزة، ويُستخدم استنشاقه كبديل للمخدرات، لكنه قد يؤدي إلى الوفاة المفاجئة بسبب نسبة الأكسجين المنخفضة أو التأثيرات الكيميائية الشديدة على الجهاز التنفسي للطفل.
وتشير الباحثة الاجتماعية، المختصة، سابقاً، في "المركز الوطني لحماية الشباب من الإدمان"، إلى أن استنشاق هذه المادة يعد الخطوة الأولى نحو إدمان أخطر، قد يتطور، لاحقاً، إلى انحرافات كبرى تشمل الجريمة والسرقة والقتل. ورغم أن القوانين تجرّم هذه الممارسة، إلا أن ضبط الأعداد الكبيرة من الأطفال وإيجاد أماكن بديلة لهم عن الحدائق يبدو أمراً بالغ الصعوبة بالنسبة للمؤسسات الرسمية.