بترسانة تُغذى بعشرات آلاف المسيرات سنويا، وسماء تُحكم السيطرة عليها بتقنيات وُلدت في ميدان المعركة وباتت تنافس أسلحة استغرق تصنيعها عشرات السنوات .. هكذا حاول الروس إحكام قبضتهم على السماء قبل الأرض..
في العمق سنحاول أن نفهم كيف يعمل الدماغ الدفاعي الروسي وكيف تعمل روسيا على إسقاط مسيرات الغرب قبل إقلاعها؟
عين موسكو الثالثة
خلال عام 2024 وما بعده، لم تعد روسيا لاعباً اعتيادياً في ميدان المسيرات فعملت على تطوير "شبكة دفاع متعددة الطبقات" تشمل رادارات رصد مبكرة، أنظمة تشويش على الاتصالات والتحكم، دفاعات أرضية مضادة للمسيرات..
لكن في المقابل، تعتمد أوكرانيا والدول الحليفة لها على مبدأ “الكم”، عبر إرسال أسراب من المسيرات على أمل أن يخترق بعضها الدفاعات إلا أنّ القدرات الدفاعية، الاستخباراتية، وعمليات التشويش جعلت هذه المعادلة مكلفة وغير مضمونة النتائج حيث أعلنت وزارة الدفاع الروسية أن دفاعاتها الجوية أسقطت نحو 7,345 طائرة مسيرة ثابتة الجناح في 35 خارج مناطق العمليات العسكرية عام 2024 فقط..
تحليلات عسكرية لعام 2025 تشير إلى أن موسكو باتت تعتمد على استراتيجية قائمة على "الاقتصاد الحربي" وهو إنتاج أعداد كبيرة من المسيرات البسيطة والرخيصة الثمن، مدعومة بدفاع مضاد متعدد الطبقات، بحيث تصبح الفعالية ليست مرتبطة بجودة كل مسيرة على حدة، بل بالعدد والقدرة الدفاعية المتزامنة وفي هذا السياق، كشف تقرير نشره موقع Army Recognition مطلع 2025 أن أكثر من 400 شركة روسية تشارك في البحث والتطوير وإنتاج الطائرات المسيرة، ما يعكس حجم الجهد المبذول لتأمين التفوق في هذا المجال لكن هذا لا ينفي أن المسيرات الأوكرانية أثبتت تفوقها النوعي بالمسيرات الصغيرة منخفضة التكلفة والدقيقة والتي اربكت الحسابات الروسية في كثير من المرات ..
سقوط مشروع فانهايم
جميع العوامل التي ذكرناها ساعدت في إيقاف تقدم مايُعرف بمشروع فانهايم وهو مشروع أُعلن عن إطلاقه في مارس/آذار 2025 خلال معرض الطيران الدولي في بريطانيا، بوصفه مبادرة مشتركة بين وزارة الدفاع البريطانية والجيش الأميركي، لتطوير أنظمة مضادة للطائرات المسيرة الصغيرة خصوصًا من الفئة المحمولة باليد أو المنطلقة من مسافات قصيرة (مثل طائرات FPV).
لكن قبل أن يُطبق المشروع عمليًا، ظهر تحدّ جديد لم يكن مطروحًا في سيناريوهات الاختبار وهو الطائرات المسيرة المزودة بكابلات ألياف ضوئية (أي دون بث لاسلكي)، ما يجعلها محصنة ضد التشويش الراديوي، وهو صلب دفاع مشروع فانهايم ..
إذ اعترف القائمون على المشروع أن تجاربهم لم تتضمن اختبار الدفاع ضد الطائرات المتصلة بألياف ضوئية، لأن هذا التهديد ظهر فجأة في الميدان ..
أحد الحلول المطروحة داخل مشروع "فانهايم" لمواجهة مسيرات الكابلات الضوئية هو نظام "سينتينل"، من ابتكار شركة "ألباين إيغل" الألمانية وهو عبارة عن شبكة من طائرات صغيرة تحوم فوق ساحة القتال لتنشئ فقاعة مراقبة واعتراض بدل الاعتماد فقط على حساسات أرضية، مما يزود القوات برؤية من الأعلى.
لكن رغم أن سينتينل يُعد من الحلول الواعدة، إلا أنه لا يزال في طور الاختبار والتقييم كما أنه يواجه قضايا تشغيلية عدة منها إدارة طاقة المنصات الجوية، التنسيق مع الطائرات المأهولة، تطبيق قواعد اشتباك دقيقة، وصعوبة الأداء في الطقس السيئ أو بيئات التشويش الكثيف..
سباق السماء المنخفضة
لفهم ما يدور في الميدان بين روسيا وأوكرانيا لا بد أن ننصت جيدًا لما تقوله الصحف وكيف تقيم حرب المسيرات التي باتت عنوانا رئيسيا للصراع ..
في تقرير لفوربس الأمريكية بعنوان: "روسيا تنشر أنظمة حرب إلكترونية جديدة مضادة للطائرات دون طيار لدعم الهجوم المتعثر" كشفت المجلة أن موسكو تتبع خطوات عملية متعددة لمواجهة المسيرات الأوكرانية تشمل زيادة الإنتاج، توسيع خطوط المصانع، وتصميم منظومات دفاعية مرافقة، إلى جانب نشر أنظمة حرب إلكترونية متقدمة قادرة على تعطيل مسيرات العدو وتقويض فعاليتها.
التحول ليس فقط في الكم بل في فلسفة الاستخدام، حسب تحليل لـForeign Policy، باتت روسيا تعتمد منذ 2025 نهج "الإرهاق المستمر بأسلحة منخفضة الكلفة وحجوم عالية" أي الإنتاج الضخم من “مسيرات هجومية أو انتحارية” إلى جانب صواريخ، لتغرق دفاعات الخصم وتُضعف قدرتها على الرد..
أما The Moscow Times، فتكشف في تقرير يونيو 2025 عن قفزة لافتة في إنتاج المسيرات القتالية بنسبة 16.9% في مايو وحده مقارنة بالشهر السابق، نتيجة توجيهات مباشرة من القيادة الروسية بتسريع النسخ والإنتاج، وتضيف Intelli News في تحليل آخر أن سوق أنظمة الدفاع المضاد للمسيرات في روسيا وصل إلى نحو 500 مليون دولار سنويًا..
ما يحدث اليوم في ساحات الصراع خصوصًا في أوكرانيا ليس مجردَ نزاعٍ تقليدي، بل سباقُ تسلح تكنولوجي سريع، يدور على مستوى السماء يحاول كل طرف فيه ابتكارَ أدواته داخل عاصفة تحديث عسكرية غير مسبوقة فلا تفوقَ مطلق بل سباقٌ مستمرٌ بين درع وسيف ..