على طول الجبال الوعرة الممتدة بين باكستان وأفغانستان.. لا شيء يعلو فوق أصوات المدافع.. ليالٍ من النار والدم.. تبادل لإطلاق النار، غارات جوية، ومعابر أُغلقت في وجه كل من يحاول العبور.
إنها واحدة من أخطر المواجهات بين البلدين منذ سنوات، تعيد إلى الواجهة سؤالاً ظلّ مؤجلاً: هل تنفجر الحرب على أطراف خط "ديورند" الشهير؟
الشرارة الأولى
كل شيء بدأ مساء الحادي عشر من أكتوبر 2025، بحسب ما نقلته صحيفة الغارديان البريطانية، حين شنّ مقاتلو طالبان الباكستانية هجوماً مباغتاً على مواقع عسكرية داخل الأراضي الباكستانية على الحدود مع أفغانستان.
ردّ الجيش الباكستاني كان حاداً وسريعاً، شمل قصفًا مدفعيًّا مكثفًا وطائرات مسيّرة حلّقت فوق المناطق الحدودية تستهدف مواقع يُعتقد أنها تابعة للحركة.
وفي غضون ساعات، كانت المعابر الرئيسية قد أُغلقت بالكامل؛ فتوقفت حركة البضائع والركاب بين البلدين، وانتشر الجيش الباكستاني في المناطق الحدودية في حالة استنفار قصوى.
نيران قديمة تشتعل من جديد
لم تكن هذه الاشتباكات حدثاً معزولاً، بل نتيجة تراكمات سياسية وأمنية ممتدة منذ أكثر من عقدين؛ فمنذ استيلاء طالبان على الحكم في كابول عام 2021 تتهم باكستان الحكومة الأفغانية بإيواء مقاتلي "تحريك طالبان باكستان"؛ الجماعة المحظورة التي شنت عشرات الهجمات ضد الجيش الباكستاني.
لكن كابل تنفي الاتهامات، وتقول إنها لا تدعم أي طرف يسعى لزعزعة استقرار جيرانه، وإنها بدورها تتعرض لهجمات جوية غير مبررة تمس سيادتها وكرامتها كدولة.
وبين الاتهام والإنكار تتحول الحدود المشتركة إلى منطقة حرب مفتوحة بلا إعلان رسمي.
الغارة التي أشعلت النار
الشرارة الكبرى جاءت من السماء.. طائرة مسيّرة باكستانية نفذت غارة دقيقة داخل العاصمة كابول استهدفت زعيم طالبان باكستان نور والي محسود.
وكانت النتيجة؟
مقتل اثنين من قادة الحركة.. ونجاة محسود نفسه من الاغتيال، لكن ما تلا الغارة كان أعنف من التوقعات؛ ففي غضون ساعات، شنّت طالبان هجمات انتقامية على طول خط ديورند الحدودي وأعلنت السيطرة على 25 موقعاً حدودياً، وتدمير 11 مركزاً عسكرياً باكستانياً.
أما الجيش الباكستاني، فأكد أنه استهدف أكثر من 20 موقعاً لطالبان وقتل 200 من مقاتليها، في حين تحدّثت الحركة عن مقتل 58 جندياً باكستانياً على الأقل.
الأرقام تختلف، لكن الحقيقة واحدة: الحدود تشتعل.. والمواجهات تتصاعد بلا هوادة.
الجغرافيا التي تصنع الحرب
خط ديورند؛ واحد من أكثر الخطوط الحدودية وعورة في العالم، يمتد لأكثر من ألف وستمئة ميل عبر جبالٍ شاهقة ووديانٍ عميقة وقبائل متداخلة.
هنا من الصعب تحديد أين تنتهي باكستان وتبدأ أفغانستان، وفي هذا الفراغ الجغرافي تتحرك الجماعات المسلحة بسهولة، بينما تراقب الجيوش من بعيد في لعبة مطاردة مستحيلة.
شهود عيان من الجانبين أكدوا لوسائل إعلام محلية أن القتال استمر حتى الفجر، وقال أحد سكان منطقة كورام الباكستانية: "كان صوت المدافع لا يتوقف، "والأرض تهتز تحت أقدامنا".
وفي المقابل، قال أحد سكان ولاية كونار الأفغانية: "السماء كانت تشتعل فوق رؤوسنا، وأطفالنا يصرخون من الخوف".
ما وراء النيران: صراع نفوذ وسيادة
ما وراء النيران لا يقف عند اشتباكات حدودية، بل يمتد إلى عمق صراعٍ طويل على النفوذ والسيادة بين دولتين لم تنجح عقود الجوار ولا التحالفات القديمة في ترميم الشك المتبادل بينهما؛ فباكستان التي كانت يوماً الراعي الأول لطالبان في مواجهة واشنطن تجد نفسها اليوم أمام حركة أكثر تمرداً واستقلالاً عن نفوذها.. طالبان من جهتها ترى في الغارات الباكستانية انتهاكاً صارخاً لسيادتها، في حين يصرّ الجيش الباكستاني على أنه لن يسمح بتحوّل الأراضي الأفغانية إلى منصة لهجمات ضد بلاده.
لكن في العمق تختبئ لعبة أكبر عنوانها توازن القوى في آسيا الوسطى؛ فالصين تراقب النار من بعيد تخشى أن تمتد إلى ممرها الاقتصادي الحيوي نحو جوادر، وروسيا تتابع بقلق خشية تسرب الفوضى إلى جمهورياتها الجنوبية.. أما واشنطن فقد خرجت عسكرياً لكنها لم تغب استخباراتياً تنتظر لحظة تعيدها إلى قلب اللعبة.
والنتيجة.. تهدئة حذرة فوق برميل بارود، وحدودٌ مرشحة للاشتعال مجدداً كلما اختُبرت قدرة القوى الإقليمية على إدارة أزماتها دون عودة أمريكية جديدة إلى الميدان.
السيناريوهات المحتملة
خبراء يضعون ثلاثة سيناريوهات لتصعيد المواجهات بين باكستان وأفغانستان: الأول الأرجح، مناوشات محدودة على نقاط محددة مع رد أفغاني على مواقع الجيش الباكستاني؛ الثاني، اجتياح متبادل للحدود؛ والثالث الأقل احتمالاً، حرب شاملة وتدخل دولي لاحتواء الأزمة.
حدود النار
في نهاية المشهد تبدو الحدود بين باكستان وأفغانستان أكثر هشاشة من أي وقت مضى.. لا اتفاق أمنيًا، ولا ثقة متبادلة، ولا نهاية قريبة في الأفق.
والمنطقة تقف اليوم على حافة بركان.. وكل ما يفصلها عن الانفجار الكامل لا يحتاج أكثر من رصاصة واحدة.