غادر المسرح دون أن يُطفئ أضواءه، ترك وراءه بيانو مُغبرًا، وأوراقًا مشطوبة، وأشرطة كاسيت كانت تسجل ضحكاتنا وأصوات بكائنا لا صوته فقط.. رحل زياد الرحباني، ابن فيروز وعاصي، الذي لم يرث مجد والديه فقط، بل تمرد عليه وصنع لنفسه مسارًا لا يشبه سواه.
توفي الفنان اللبناني زياد الرحباني عن عمر ناهز السبعين عامًا، تاركًا خلفه إرثًا فنيًا فريدًا شكل علامة فارقة في الموسيقى والمسرح العربي الحديث فمن منا لم يقع أسير الإعجاب بنصوصه، ومسرحياته، وألحانه التي تضرب دائمًا على الوتر الحساس، كما يصفها محبوه؟
ولد زياد عاصي الرحباني عام 1956 في بيت موسيقي استثنائي، أسسه والده عاصي الرحباني ووالدته الأسطورة فيروز، اثنان من أبرز أعمدة الموسيقى العربية المعاصرة ورغم هذا الإرث، اختار زياد منذ بداياته أن يشق طريقه الخاص، وأن يؤسس مشروعًا فنيًا قائمًا على التمرد، والواقعية، والاشتباك مع الواقع السياسي والاجتماعي اللبناني.
في عمر لم يتجاوز السابعة عشرة، لحن واحدة من أشهر أغاني والدته “سألوني الناس”، خلال فترة مرض والده، ليقول للعالم إنه قادر على صناعة لغته الخاصة بعيدًا عن ظل الأسماء الكبيرة التي نشأ في حضنها.
بعكس ما اعتادته الآذان في بيروت، لم يقدم زياد أغنيات حب حالمة فقط، بل حمل آلته الموسيقية إلى أرض المعركة اليومية، دمج الجاز الغربي بالمقامات الشرقية، ونسج من النص السياسي الساخر موسيقى قادرة على إضحاكنا والتأمل معنا في الوقت نفسه.
دخل زياد عالم المسرح فخلط فيه السخرية بالكارثة، واليومي بالسياسي، والألم بالضحك. تحدث في مسرحياته الشهيرة مثل “نزل السرور” و”بالنسبة لبكرا شو؟” و”فيلم أميركي طويل” بلسان العامل والعاشق، الفقير والمثقف، دون أن يمنح البطولة لأحد… أبطاله كانوا منهكين، مرتبكين، تمامًا كما هو حال لبنان.
ألبوماته مثل “هدوء نسبي” و"إلى أين" لم تكن فقط أعمالًا موسيقية، بل نشرات يومية توثق الهموم اللبنانية، وكانت موسيقاه تمثل فئة كاملة من الناس فقدت صوتها… فوجدته على لسانه، وعلى نوتاته.
في السنوات الأخيرة، قل ظهوره وابتعاده عن الأضواء أُثيرت شائعات كثيرة حول صحته، لكنه ظل حاضرًا بصوته وموسيقاه ومسرحه في وجدان اللبنانيين والعرب، تحدث أحيانًا بتصريحات تشي بالإرهاق، ومر بوعكات صحية، لكنه لم يتخل يومًا عن “مشروعه الفني الصادق” كما اعتاد أن يسميه.
زياد لم يكن مجرد فنان كان مرآة جيل، وصوت مدينة، وأرشيفًا صادقًا لزمن مزقته الأزمات والحروب .. رحل الآن، لكن أثره باقٍ في كل ضحكة ذكية، في كل جملة لاذعة، وفي كل لحن قرر أن يواجه الحزن دون أن يستسلم له.