كشف تقرير لمجلة ”فورين أفيرز“ الأمريكية، أن التحركات الصينية الأخيرة، بما فيها رحلة سفينة الشحن ”إسطنبول بريدج“ عبر المحيط المتجمّد الشمالي في أكتوبر 2025 لم تكن مجرد حدث لوجستي عابر، بل هي مؤشر على اتساع رقعة المنافسة العالمية واتجاهها نحو جبهات جديدة.
وقال التقرير إنه عندما وصلت السفينة الصينية إلى ميناء فيليكسستو البريطاني، بدا أن الحدث عادي للوهلة الأولى، فالصين تعدّ ثالث أكبر مصدر لواردات المملكة المتحدة، والسفن التجارية تعبر بين البلدين بشكل روتيني. لكن ما ميّز هذه الرحلة هو مسارها، فقد أصبحت ”إسطنبول بريدج“ أول سفينة حاويات صينية كبيرة تصل مباشرة إلى أوروبا عبر المحيط المتجمد الشمالي، في رحلة استغرقت 20 يوماً فقط، أي أسرع بكثير من الطرق التقليدية عبر قناة السويس أو رأس الرجاء الصالح.
وأكدت المجلة، أن بكين احتفلت بهذا الإنجاز باعتباره خطوة لتعزيز استقرار سلاسل التوريد العالمية. لكن الرسالة الأعمق كانت أوضح، ومفادها بأن الصين توسّع نفوذها بسرعة في الجبهات الاستراتيجية الجديدة، قاع البحار، والقطبين، والفضاء، والفضاء السيبراني، والنظام المالي الدولي. وهي جبهات لم تعد هامشية في التنافس بين القوى الكبرى، بل أصبحت أساسية في تحديد من سيضع قواعد القرن الحادي والعشرين.
بدأت الصين جهودها في استكشاف أعماق المحيط منذ أواخر السبعينيات، حين شرعت في تطوير مركبات غاطسة وتقنيات لرسم خرائط القاع البحري. ومنذ ذلك الوقت، أنشأت 12 مؤسسة بحثية متخصصة وأكبر أسطول أبحاث مدني في العالم.
ويعتبر الرئيس الصيني شي جين بينغ، هذه المنطقة مصدراً “لكنوز غير مكتشفة”، ويرى أن التحكم في مواردها أمر بالغ الأهمية لأمن بلاده ومستقبلها التكنولوجي.
وبحسب ”فورين أفيرز“، تمتلك الصين اليوم خمسة عقود استكشاف صادرة عن الهيئة الدولية لقاع البحار، أي أكثر من أي دولة أخرى. كما تحتفظ بمقعد شبه دائم في مجلس الهيئة، وتقدم دعماً مالياً وفنياً كبيراً يمنحها نفوذاً مؤثراً في وضع القواعد التنظيمية لهذا القطاع الناشئ. فالمعادن الموجودة في قاع المحيط، مثل الكوبالت والنيكل والعناصر الأرضية النادرة، تمثل مكوّناً حيوياً لسلاسل التوريد التي تسيطر عليها الصين أصلاً على اليابسة.
وتواجه جهود بكين معارضة متزايدة، إذ تطالب نحو 40 دولة في الهيئة بتجميد إصدار تراخيص التعدين إلى حين وضع ضمانات بيئية صارمة. وحتى بعض دول “البريكس” ليست على وفاق كامل مع الصين، ومع ذلك، تواصل بكين الاستثمار في تقنيات التعدين تحت الماء وأنظمة المسح البحري ذات الاستخدامين المدني والعسكري.
يمتد طموح الصين كذلك إلى القطب الشمالي، الغني بالموارد الطبيعية والممرات البحرية الناشئة. ففي وثيقة صادرة عام 2018، أعلنت بكين نيتها إنشاء “طريق حرير قطبي” يربط الصين بأوروبا عبر الممرات الجليدية المتراجعة.
وأشار التقرير إلى أن الصين وسّعت أبحاثها القطبية منذ ثمانينيات القرن الماضي، وأصبحت من أكثر المراقبين نشاطاً في ”مجلس القطب الشمالي“، لكن دول القطب الديمقراطية باتت أكثر حذراً، فقد ألغت كندا والدنمارك وآيسلندا والسويد عدة مشاريع صينية بسبب مخاوف أمنية.
وعلى النقيض، عزّزت روسيا تعاونها مع الصين بعد عزلتها الدولية عقب غزو أوكرانيا. فقد وقّعت الدولتان اتفاقات لإقامة مشاريع تعدين وبنية تحتية، وأجرتا مناورات بحرية مشتركة في مياه القطب، غير أن هذا التقارب له حدوده فموسكو لا تزال متمسكة باحتكارها لهويتها القطبية ورفضت منح الصين دوراً سياسياً أكبر في حوكمة المنطقة.
يعود اهتمام الصين بالفضاء إلى إعلان ماو تسي تونغ عام 1957 بأن الصين ستُطلق أقماراً صناعية مثل القوتين العظميين آنذاك. وتحت قيادة شي، أصبح الفضاء جزءاً محورياً من الاستراتيجية الوطنية، إذ تمتلك الصين محطة فضائية دائمة، وأسطولاً ضخماً من الأقمار العسكرية، وتطوّر قدرات متقدمة لاستكشاف القمر والفضاء العميق.
ويعتقد بعض المسؤولين الأمريكيين أن الصين قد تُعيد البشر إلى سطح القمر قبل برنامج “أرتيميس” الأمريكي، وتعد المحطة الدولية للأبحاث القمرية (ILRS) بالشراكة مع روسيا، أبرز مشروعات الصين، التي تأمل بجذب عشرات الدول للمشاركة، لكنها نجحت حتى الآن في استقطاب عدد محدود فقط، معظمها دول ذات برامج فضائية ناشئة. في المقابل، انضمّت 60 دولة إلى اتفاقات ”أرتيميس“ بقيادة الولايات المتحدة، التي تُقدّم إطاراً أوضح وأكثر شفافية للتعاون الفضائي.
ويؤكد تقرير المجلة الأمريكية، أن الصين تعمل أيضاً على إعادة صياغة قواعد الإنترنت العالمي. فعبر “طريق الحرير الرقمي”، أصبحت شركات الاتصالات الصينية مسؤولة عن نحو 40٪ من معدات الاتصالات في العالم. وتسعى بكين إلى التأثير في المعايير التقنية المستقبلية عبر سيل من المقترحات في المنظمات الدولية.
ومن أبرز تلك المبادرات، يأتي بروتوكول الإنترنت الجديد “New IP”، الذي يمنح السلطات قدرة أكبر على التحكم في الشبكات الرقمية. وقد قوبل هذا المشروع بانتقادات واسعة من الدول الغربية وخبراء الإنترنت، لكنه لا يزال مطروحاً بأسماء وصيغ مختلفة، مع دعم محدود من بعض الدول الإفريقية.
وفي الوقت ذاته، تنتشر البنية التحتية الرقمية الصينية، من شبكات الألياف البصرية إلى مراكز البيانات، في أجزاء واسعة من العالم النامي.
يحظى الدولار الأمريكي بمكانة مركزية في النظام المالي العالمي، لكن الصين تعمل على تعزيز استخدام عملتها، اليوان (الرينمينبي)، في التجارة الدولية. فقد توسعت في اتفاقيات تبادل العملات، وأنشأت نظام المدفوعات العابرة للحدود (CIPS)، وشجعت شركاءها على استخدام اليوان في العقود التجارية. وبحلول منتصف 2025، تم تسوية نحو 29٪ من تجارة الصين الثنائية بعملتها المحلية.
ورغم أن اليوان لا يزال يمثل حصة صغيرة من المعاملات والاحتياطات العالمية، فإن العقوبات الأمريكية ورغبة بعض الدول في تنويع عملاتها قد سرعت جهود الابتعاد عن الاعتماد الحصري على الدولار.
وشددت ”فورين أفيرز“، في تقريرها على أن الصين تتبع نهجاً ثابتاً: الاستثمار المبكر، وبناء القدرات، والتأثير في المؤسسات الدولية، وفرض رؤيتها حيثما تعجز المؤسسات القائمة عن استيعابها. ورغم أنها لم تحقق هيمنة كاملة في أي جبهة، فإنها أحرزت تقدماً ملموساً في كل منها، من أعماق البحار إلى القمر، ومن الاتصالات إلى المدفوعات المالية.
أما الولايات المتحدة، فلا تزال تمتلك مزايا هائلة، أبرزها تحالفاتها وقيادتها التكنولوجية. لكن غياب استراتيجية بعيدة المدى قد يعرض دورها العالمي للتراجع أمام دولة تبني نفوذها بصبر وإصرار.