شهدت منطقة الكاريبي مؤخرًا واحدة من أضخم الحشود العسكرية الأمريكية منذ غزو بنما العام 1989، في مشهد يعيد إلى الأذهان عقود الهيمنة الأمريكية في أمريكا اللاتينية.
وكشفت مصادر أن أكثر من 10% من القوة البحرية الأمريكية المنتشرة عالميًا تتمركز اليوم في نطاق القيادة الجنوبية "ساوث كوم"، بما في ذلك مدمرات وغواصات نووية وسفن إنزال برمائية ومنصات عمليات خاصة. ورغم أن واشنطن تصف هذه التحركات بأنها "حرب على المخدرات"، فإنها عمليًا ترسم ملامح مواجهة جيوسياسية مباشرة مع نظام نيكولاس مادورو في فنزويلا.
أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن الولايات المتحدة في "نزاع مسلح غير دولي" مع الجماعات المصنفة إرهابية ضمن شبكات تهريب المخدرات، لكن المراقبين يرون أن التصعيد يتجاوز المكافحة الجنائية إلى محاولة لتقويض النظام الفنزويلي، خصوصًا بعد ربط مادورو بشبكة "كارتل الشمس" وبمنظمة "ترين دي أراغوا" الإجرامية. وبينما تواجه هذه العمليات اعتراضات قانونية في الكونغرس الأمريكي، يُجرى في الخفاء إعداد "حِزم ضربات" محتملة ضد أهداف داخل المياه الإقليمية أو الأراضي الفنزويلية.
ومع محدودية البنى التحتية العسكرية الأمريكية في أمريكا اللاتينية، والتي تقتصر على قاعدتَي غوانتانامو وسوتو كانو، عادت بورتو ريكو لتؤدي دورها التاريخي كمنصة متقدمة للعمليات الأمريكية، كما أصبح ميناء بونس مركزًا لرسو القطع البحرية، بينما تُستخدم منشآت الحرس الوطني في مطار لويس مونيوز مارين لطلعات الاستطلاع الجوي بطائرات "بي 8 إيه-بوسيدون". والأهم أن قاعدة روزفلت رودز البحرية أُعيد فتحها بعد أكثر من 20 عامًا من الإغلاق، لتستقبل عمليات الدعم والإمداد البحري.
ورغم هذا الانتشار، لا تزال واشنطن تفتقر إلى القدرات اللوجستية اللازمة لحملة عسكرية واسعة ضد فنزويلا؛ فالقوات الحالية قادرة على تنفيذ ضربات دقيقة عن بُعد، لكنها غير مؤهلة لخوض عمليات مطوّلة في بيئة معقدة. ومع ذلك، فإن التمركز المتزايد حول بورتو ريكو، إضافة إلى تدريبات القوات الأمريكية قرب سواحل ترينيداد وتوباغو، يضع فنزويلا في مرمى نيران محتمل، ويمنح واشنطن مرونة للتحرك دون تجاوز "الخطوط الحمراء" الإقليمية.
صراع النفوذ مع الصين في الموانئ
الوجود الأمريكي المتنامي في الموانئ الكاريبية يفتح ثغرات استخباراتية؛ إذ تُدير شركات صينية، أبرزها "سي كيه هاتشيسون"، موانئ حيوية في المكسيك وبنما، استخدمتها القطع الأمريكية مؤخرًا. ويخشى البنتاغون من أن تستغل بكين هذه النقاط لجمع بيانات عن أنماط تحرك الأسطول الأمريكي، في إطار تنافس أوسع يمتد من بحر الصين الجنوبي إلى الكاريبي.
ويعتقد المحللون أن هذه التطورات تُظهر أن واشنطن تعيد تركيزها إلى "الحديقة الخلفية" بعد عقود من الانشغال بالشرق الأوسط وآسيا. ومع توجه استراتيجية الدفاع الوطني لعام 2025 نحو إعطاء الأولوية للأمن الداخلي ونصف الكرة الغربي، تبدو بورتو ريكو حجر الزاوية في هذا التحول، لكن تحويل الانتشار الراهن إلى وجود دائم يتطلب استثمارات ضخمة في البنى التحتية اللوجستية في أمريكا الجنوبية، وتوضيحًا لاستراتيجية الانخراط الإقليمي المقبلة.
وبينما تعيد واشنطن إحياء قواعدها القديمة في الكاريبي، كجزء من عودة كبرى إلى أمريكا اللاتينية، فإن ما يبدو "حربًا على المخدرات" قد يكون في جوهره اختبارًا لقدرة الولايات المتحدة على إسقاط نظام مادورو دون الغرق في مستنقع جديد.