بينما تتجه أنظار العالم نحو النزاعات في غزة وأوكرانيا، يشهد الساحل الأفريقي تصعيدًا هادئًا لكنه منهجي لتنظيمات متشددة، يقوده فرع القاعدة في مالي، الذي يوسّع نفوذه بشكل مستمر مهددًا استقرار الدولة ومحيطها الإقليمي.
هناك تتكشف عملية استيلاء بطيئة ومنهجية، تشبه عودة طالبان إلى أفغانستان، حيث يحوّل تنظيم جماعة "نصر الإسلام والمسلمين (GSIM)"، التابع للقاعدة، حصار الوقود إلى أداة استراتيجية لخنق اقتصاد مالي وشلّ العاصمة باماكو؛ ما عمّق حالة الانهيار الداخلي وأضعف سلطة الدولة.
ومع تراجع الإمدادات الحيوية وتزايد الهجمات، أصبح التنظيم يقترب من تحقيق نفوذ سياسي غير مباشر دون خوض معركة مباشرة للسيطرة على العاصمة.
والاستراتيجية التي يستخدمها " GSIM" في مالي وصفها الخبراء بـ"الأناكوندا"، إذ يبسط قبضته تدريجيًا على أكثر من 70% من البلاد، ويسيطر على الطرق والمحاور الحيوية بين المدن، مستهدفًا النقل التجاري وخطوط الإمداد الحيوية.
وقد أدت هذه الاستراتيجية إلى شلل شبه كامل في الخدمات الأساسية في العاصمة، مع طوابير طويلة أمام محطات الوقود، وانقطاع الكهرباء في مدن مثل موبتي وباندياغارا، وتعطل الأعمال والمستشفيات بشكل شبه كامل.
وعلى الأرض، يفرض التنظيم قوانينه الخاصة، من جمع الضرائب وفرض الزكاة، إلى إلزام النساء بارتداء الحجاب، مع عقوبات صارمة لمن يرفضون الانصياع. في المقابل، يحاول التنظيم كسب رضا السكان المحليين عبر التفاوض مع زعماء القرى لتوقيع اتفاقيات غير معلنة تضمن استقرار المناطق الريفية التي يسيطر عليها.
كما شهدت الأشهر الأخيرة ارتفاعًا كبيرًا في عمليات اختطاف العمال الأجانب؛ ما يتيح للتنظيم تمويل عملياته وتجنيد مقاتلين جدد.
وتظهر الأرقام حجم الأزمة الإنسانية؛ فحوالي مليوني مواطن مالي اضطروا للنزوح، فيما توقفت مدارس الفتيات في مناطق واسعة، في مؤشر على ما يسميه الخبراء بـ"تحويل مالي بطيء على نموذج طالبان".
ورغم محاولات الحكومة التظاهر بالقوة في العاصمة، تكاد قوات الدولة لا تسيطر سوى على 25% من التراب المالي، بينما يظل بقية البلد تحت النفوذ المباشر للتنظيم والجماعات المرتبطة به.
ويحذر محللون من أن استمرار هذا التمدد قد يجعل مالي ملاذًا مستقرًا للقاعدة لأول مرة منذ عقدين، مع إمكانات إدارة الموارد الطبيعية، وفرض القوانين، وإقامة شبكات تهريب واسعة.
وقد يتحول سيناريو العاصمة إلى نموذج صومالي، حيث تبقى باماكو حصنًا معزولًا بين أراضٍ يسيطر عليها المتشددون، أو نموذج أفغاني يشهد انهيار الجيش وانسحاب القوات الأجنبية، بينما يستمر التنظيم في تثبيت نفوذه تدريجيًا.
ومع تصاعد نفوذ الجماعات المتشددة، تصبح مالي على حافة أزمة سياسية وإنسانية غير مسبوقة، وسط مخاوف من أن تصبح مختبرًا لتجارب "الاستيلاء البطيء" الذي يطبقه تنظيم القاعدة في مناطق متفرقة حول العالم، ليصبح النموذج الأحدث لما يمكن أن تحققه الاستراتيجيات لتلك الجماعات دون خوض معارك مفتوحة، وبطريقة منظمة ومحسوبة بدقة.