على الطرف النقيض من الخطاب السياسي الأمريكي الذي يستبعد خيار الحرب في فنزويلا، نشرت واشنطن حاملة الطائرات النووية "غيرالد فورد"، قبالة سواحل كراكاس.
وفي الوقت الذي استنجدت فيه فنزويلا بروسيا والصين وإيران لدعمها في صد "العدوان" الأمريكي المرتقب، يستبعد خبراء فرضية انخراط هذه الدول الثلاث في نزاع مباشر، بعيد عن جغرافياتها وعن مجالات أمنها القومي.
ووجّه الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو في خطاب ألقاه، فجر اليوم السبت، أصابع الاتهام للولايات المتحدة الأمريكية، معتبراً أنها تسعى لتبرير الحرب وتغيير النظام وسرقة الثروات النفطية.
وأشار مادورو في خطابه إلى أنه لو لم تكن بلاده تمتلك النفط والغاز والذهب والأراضي الزراعية والتاريخ المجيد ما كان ليذكر اسمها أحد.
وتوجه مادورو إلى الشعب الفنزويلي قائلاً: "مقابل التهديدات الدائمة والحروب النفسية، أدعو شعب فنزويلا لتكون أعصابه من حديد وأن يعمل بهدوء ورصانة ووحدة وطنية.
وتوجه إلى دول أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي بالإشارة إلى أن ما أسماه بالنضال من أجل فنزويلا هو نضال من أجل القارة الأمريكية بأسرها وأن انتصار فنزويلا سيكون انتصاراً للقارة الأمريكية بأكملها أيضاً، وفق تعبيره.
ويأتي خطاب مادورو، فيما تستكمل واشنطن نشر قواتها العسكرية قبالة سواحل فنزويلا وتحديد بنك الأهداف العسكرية والاستراتيجية المشمولة بالاستهداف.
وشهدت المنطقة مؤخراً تطورين في غاية الأهمية والخطورة، أولهما قرب وصول حاملة الطائرات "يو إس إس غيرالد آل فورد" إلى البحر الكاريبي لتساند القطع والقوات العسكرية البحرية المنتشرة هناك، منذ سبتمبر/ أيلول الماضي.
أما التطور الثاني فهو وصول المدمرة الأمريكية المزودة بصواريخ موجهة "يو إس إس غريفلي" إلى "بورت أوف سبين"، عاصمة ترينيداد وتوباغو، للمشاركة في مناورات عسكرية مع قواتها المسلحة هناك.
وتحتوي " غيرالد فورد" على محركين نوويين، وتُعد الأولى من فئة حاملات الطائرات الأمريكية التي تحتوي على أسلحة نووية ويتألف طاقمها من قرابة 4500 شخص، وهي قادرة على الإبحار لمدة 20 عاماً دون الحاجة للتزود بالوقود، وتزن 100 ألف طن وتبلغ سرعتها تقريبا 55 كيلومتراً في الساعة.
وستنضم "فورد" التي تحمل 75 مقاتلة حربية إلى القطع الأمريكية المنتشرة في منطقة "الكاريبي" والمتكونة من 8 سفن حربية وغواصة نووية وطائرات من طراز "إف-35".
ورغم تأكيد وزارة الحرب الأمريكية "البنتاغون" أن المدمرة لا علاقة لها بالمستجدات في كراكاس، إلا أن جميع التحليلات العسكرية والاستراتيجية تضعها ضمن التعبئة الأمريكية لتوجيه ضربات عسكرية لفنزويلا.
في الأثناء، أكد مسؤولون أمريكيون من داخل إدارة الرئيس دونالد ترامب أنّ واشنطن انتهت من تحديد بنك الأهداف المحتملة في فنزويلا، والتي تشمل منشآت عسكرية ومدنية يُشتبه في استخدامها لتهريب المخدرات.
ونقلت مصادر إعلامية أمريكية عن المسؤولين الأمريكيين قولهم إنّ أية ضربات جوية محتملة تهدف في المحصلة إلى إرسال رسالة واضحة للرئيس نيكولاس مادورو بضرورة التنحي من منصبه.
واضاف المسؤولون أنّ الحملة الجوية المحتملة ستركز على أهداف تمثل نقطة التقاء عصابات المخدرات بنظام مادورو، وفق تقديرهم.
وتتضمن الاهدافُ المقررة موانئَ، ومطارات عسكرية، ومنشآت بحرية، ومدارج جوية، يُشتبه في استعمالها لتهريب المخدرات.
ويرى مراقبون أن بنك الأهداف المحدد يؤكد صحة فرضية أن واشنطن لا تُفرق بين النظام الفنزويلي وعصابات المخدرات، بل تعتبر أن الأخيرة استولت وسيطرت على الدولة الفنزويلية وصارت توظف منشآتها العسكرية والمدنية.
الأهم من ذلك، بنظر المراقبين، أن واشنطن مصرّة على الربط الشرطي والتلازمي، بين محاربة المخدرات وإسقاط نظام نيكولاس مادورو، الذي تتهمه بتزعم عصابات المخدرات في البلاد.
ويتطابق هذا التصور الأمريكي في فنزويلا بشكل كبير، مع تصور أمريكي سابق في الشرق الأوسط، ربط بين محاربة المخدرات (الكبتاغون) والنجاح في القضاء عليها، وبين إسقاط نظام الرئيس السابق بشار الأسد في سوريا.
ويبدو أن الجناح المتصلب في إدارة دونالد ترامب حيال فنزويلا - والذي يرأسه وزير الخارجية ماركو روبيو - نجح في إقناع رئيس البيت الأبيض برؤيته السياسية والمتمثلة في ضرورة إسقاط مادورو للقضاء على آفة المخدرات.
في المقابل عجز الجناح الوسطي بقيادة مبعوث ترامب إلى فنزويلا ريتشارد غرينيل، عن مسايرة المستجدات السياسية والعسكرية في منطقة أمريكا اللاتينية برمتها، وصار صوته غير مسموع في ظلّ المشهد القائم.
وسبق أن وصف روبيو فنزويلا بأنها "دولة مخدرات يديرها كارتل"، وفق تعبيره.
في خضم كل المستجدات العسكرية والتسريبات الإعلامية الخطيرة، يؤكد مراقبون، أن نفي ترامب استعداد بلاده توجيه ضربات عسكرية لفنزويلا، ضربٌ من ضروب المراوغة السياسية والمناورة الاستراتيجية لربح الوقت ولتحقيق أعلى مستوى من النجاعة العسكرية للضربات المقررة.
ويعكس ذلك استعانة ترامب في الماضي القريب بأسلوب "النفي الرمادي" فيما كانت المقاتلات الأمريكية تستعد لاختراق المجال الجوي الإيراني وتوجه ضربات موجعة للبرنامج النووي الإيراني.
في المقابل، توجه الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو بنداء عاجل لروسيا والصين وإيران، لدعمه في المكاسرة القادمة مع الولايات المتحدة الأمريكية.
وحسب مصادر سياسية غربية مطلعة فإن مادورو تواصل مع روسيا والصين وإيران لطلب صواريخ ومسيرات ورادرات تحسبا لهجوم أمريكي محتمل.
ووفق وثائق رسمية أمريكية وصلت إليها صحيفة "واشنطن بوست"، فقد أرسل مادورو خطابين إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الصيني شي جين بينغ لطلب الأسلحة والمعدات العسكرية لتعزيز دفاعات فنزويلا.
وطلب مادورو من بوتين تحديث مقاتلات عدة من طراز سوخوي "سو-20 إم كيه 2" كانت فنزويلا قد اشترتها من روسيا، كما طلب إصلاح 8 محركات و5 رادارات في روسيا وشراء 14 مجموعة من الصواريخ ودعماً لوجستياً لم تُحدد طبيعته.
أما في رسالته إلى الرئيس الصيني فقد طلب مادورو توسيع التعاون العسكري لمواجهة التصعيد الأمريكي داعيا إياه إلى تسريع إنتاج أنظمة رادار لدى شركات صينية.
وتشير الوثائق كذلك إلى أن وزير النقل الفنزويلي نسق مؤخراً شحنة معدات عسكرية ومسيرات من إيران.
وتعكس تلك المعلومات، التي لا يمكن نفيها أو تأكيدها، حالة التعبئة العسكرية القصوى التي بلغتها فنزويلا، وطبيعة التقديرات الاستراتيجية التي تنطلق منها في قراءتها لمشهد التصعيد العسكري الأمريكي في منطقة الكاريبي.
وكشفت هذه المعلومات عن عدم تعويل فنزويلا على الجبهة اللاتينية، وعلى دول أمريكا اللاتينية، المعروفة بتراثها اليساري المناهض للولايات المتحدة الأمريكية.
ورغم النبرة السياسية العالية التي اتصفت بها خطابات رؤساء كولومبيا وتشيلي والبرازيل، في الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلا أنها عاجزة عن التحول إلى سياسات ميدانية في مقابل مصالح واشنطن.
وتميط الوثائق اللثام أيضاً عن حجم الاختلافات السياسية بين دول أمريكا اللاتينية، وعن عجزها عن تكوين جبهة دفاع مشترك تتفق على الحدّ الأدنى من سياسات الوقوف في وجه المصالح الأمريكية.
والأكثر من كل ما سبق أنها تكشف عن تخلف فنزويلي عن اللحاق بركب التطورات التقنية العسكرية، وهو قصور يعود لعدة اعتبارات على رأسها الفساد المتغلغل والمستشري في دواليب الدولة.
في هذا السياق، يفحص الخبراء مدى استجابة "الحلفاء البعيدين" للمطالب الفنزويلية العاجلة لتأمين الدفاعات قبل بداية الهجوم العسكري الأمريكي، ويضع الخبراء 4 سيناريوهات كبرى لهذا المشهد،
السيناريو الأول، وهو سيناريو جدّ مستبعد، يتمثل في الانخراط الثلاثي في الحرب، للدفاع عن فنزويلا، وهو مستبعد نظراً لبعد المسافة الجغرافية أولا، ولأنّ فنزويلا ليست مجالا حيويا للدول الثلاث ثانيا، وأنّ المساعدات المطلوبة متعلقة بمواعيد تسليم مقررة سلفا ولا يمكن في غالب الأحيان تقديمها ثالثا، والتداعيات الخطيرة لأي انخراط عسكري ضدّ واشنطن رابعاً.
السيناريو الثاني، وهو سيناريو مستبعد نسبيا، يتجسد في الاستجابة لبعض المطالب العسكرية الدفاعية – أي الأسلحة الدفاعية دون الهجومية- والتي لا تمثل خطرا على الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة ولا تعرضه لخطر حقيقي، ومدار استبعاده أنّ كل العواصم الثلاث لا تبتغي فتح جبهة جديدة من الصراع مع واشنطن، لاسيما وهي تدير صراعها الحالي ضمن الهوامش المقبولة (الملف النووي مع إيران، الصراع الاقتصادي السياسي مع الصين، الصراع العسكري غير المباشر في أوكرانيا وسباق التسلح مع روسيا).
السيناريو الثالث، وهو سيناريو مرجح بمستويات محدودة، فيتمثل في تقديم المساعدات ولكن بتحفظات معينة، من بينها أن تكون دفاعية فقط، وأن يكون تاريخ تسليمها لكاراكاس منصوصا عليها مسبقا، وأن يكون عبر دولة ثالثة، أو أطراف غير رسمية، وهو سيناريو مرجح؛ لأنه سيكون تحت أعين واشنطن وبعلمها، ولن يكون بأي حال من الأحوال كاسرا للتوازن العسكري في منطقة الكاريبي.
السيناريو الرابع، وهو السيناريو الأكثر رجحانا، فيتمثل في "الرفض الرمادي" للمطالب الفنزويلية، وهو رفض يكون عادة مصحوبا بإجراءات استعراضية لا تغير شيئاً من حقيقة الصراع، من قبيل وصول طائرة عسكرية روسية إلى كاراكاس، وتأكيد موسكو بأنها سلمت فنزويلا صواريخ "إيغلا- إس"، والتنديد السياسي والإعلامي لهذه الدول في المنظمات الإقليمية والدولية ضدّ التدخل الأمريكي في شؤون الآخرين لا غير، وتمثل ليبيا القذافي وعراق صدام حسين، شواهد عن الانكفاء الروسي الصيني أمام آلة الحرب الأمريكية.
وختاماً، فإن كل ما سبق، يفترض فهم طبيعة وقيمة الفاعل الفنزويلي، لدى عواصم الثلاث، فبكين تنظر لفنزويلا كعمق اقتصادي مهم وكقاطرة لاتينية لطريق الحرير، أما موسكو فهي تنظر لفنزويلا كشريك اقتصادي في ضبط النفط سعراً وإنتاجاً وكحليف سياسي ضد واشنطن، أما طهران فهي تقارب كراكاس من زاوية الصديق البعيد الذي دعمها في الحرب الأخيرة و"القرين" في العقوبات الاقتصادية الغربية.
ويستبعد مراقبون التقارب مع كراكاس، كعمق استراتيجي ومجال أمن قومي، وهنا يثار تساؤل حول ما إذا وجدت بكين وموسكو في المعارضة الفنزويلية المتأهبة لحكم فنزويلا، تحت نيران "فورد"، ضمانات سياسية واقتصادية، تُماثل أو تفوق ما يقدمه لها نظام مادورو، فهل ستبقيان على العهد مع الحليف السابق أم أن الودّ سيتحول إلى "القادم مع النظام الجديد"؟