في زحام المدافع وتحت ظلال الحروب الممتدة، تصدح موسكو برسالة تثير التساؤلات فحواها "نحن مستعدون للتفاوض"، في محاولة لإبقاء الباب مواربًا أمام الحلول السياسية، وذلك في وقت خيم فيه الصمت على الموقف الأوكراني، هو يعكس خللا عميقا في ميزان المبادرة ويفرض واقعا جديدا تبتعد فيه الدبلوماسية تدريجيًا عن واجهة المشهد، وفق مراقبين.
وأعلنت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا أن بلادها على أتم الاستعداد للمشاركة في جولة جديدة من المفاوضات مع أوكرانيا، مشيرة إلى أن الوفد الروسي جاهز للتوجه إلى إسطنبول في أي وقت.
وأكدت زاخاروفا أن موسكو تأمل في أن تلتزم كييف بالاتفاقات السابقة وأن تستأنف عملية التفاوض، لكنها لفتت إلى أن الجانب الأوكراني لم يبدِ أي نية لذلك، ولم يتقدم بأي طلب بشأن عقد جولة جديدة.
وسرعان ما أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، أن كييف اقترحت على موسكو عقد جولة جديدة من محادثات السلام الأسبوع المقبل، مؤكدًا أنه يجب تعزيز زخم المفاوضات.
وكانت آخر جولات الحوار بين الطرفين جرت في إسطنبول، حيث عُقدت الجولة الثانية من المفاوضات في يونيو الماضي، وأسفرت حينها عن اتفاقات إنسانية شملت تسليم جثث 6 آلاف جندي أوكراني، إلى جانب تبادل للأسرى من الفئات الهشة كالجنود المرضى أو من هم دون سن 25 عامًا.
ورغم الاتهامات الروسية المتكررة بأن كييف تتجنب المفاوضات أو غير مستعدة لها، إلا أن الجانب الأوكراني لم يرد بشكل رسمي على دعوة موسكو، ما يُبقي المشهد الدبلوماسي معلقًا بين طرف يعلن استعداده، وآخر يرفض الرد.
وأكد الخبراء أن هناك أزمة بين روسيا وأوكرانيا أعمق من مجرد غياب المفاوضات، وأن موسكو تحاول إعادة تقديم نفسها دوليًا كطرف عقلاني مستعد للحوار، في حين يلتزم الجانب الأوكراني موقفًا غامضًا بين الانتظار وتقديرات ميدانية غير مستقرة، وسط خشية من خسارة دعم الحلفاء الغربيين في حال الدخول في مفاوضات دون شروط مضمونة.
وأضاف الخبراء أن تراجع فرص التفاوض لا يعني بالضرورة غياب الرغبة في الحل، بل يشير إلى تحوّل الدبلوماسية نفسها إلى أداة في إطار صراع أوسع تُستخدم فيه الرسائل السياسية كسلاح ضمن الحرب الهجينة.
وقال ديميتري بريجع، مدير وحدة الدراسات الروسية في مركز الدراسات العربية الأوراسية، إن الحديث عن "موت الدبلوماسية" بين روسيا وأوكرانيا يعكس أزمة أعمق من غياب جولة تفاوضية جديدة، مشيرًا إلى وجود تباين حاد بين الخطاب الروسي المعلن استعداده للحوار، والصمت الأوكراني، الذي يمكن تفسيره إما كموقف تكتيكي أو كمؤشر على مأزق داخلي في اتخاذ القرار الاستراتيجي.
وأكد مدير وحدة الدراسات الروسية، لـ"إرم نيوز" أن الاستعداد الروسي الظاهري للتفاوض يأتي في توقيت حساس، حيث تسعى موسكو إلى إعادة تقديم نفسها على الساحة الدولية كطرف عقلاني منفتح على الحلول السلمية، في ظل اتساع الفجوة بين مواقف الغرب و"الجنوب العالمي" بشأن النزاع.
واعتبر بريجع أن تصريحات المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا موجهة في جزء منها إلى الأطراف الدولية والإقليمية، وليس فقط إلى كييف.
وأضاف أن غياب الرد الأوكراني الواضح يمكن قراءته في سياقات متعددة، أبرزها استمرار رهان كييف على تغيير ميداني محتمل بدعم غربي مباشر، أو خشية القيادة الأوكرانية من الدخول في مفاوضات بشروط غير مريحة قد تثير تحفظات حلفائها، فضلًا عن وجود إرهاق سياسي داخل النخبة الأوكرانية من فكرة التفاوض، التي قد تُفهم على أنها اعتراف ضمني بالخسارة.
ومن جانبه، قال بسام البني، المحلل السياسي والخبير في الشؤون الروسية، إن المسار الدبلوماسي لحل الأزمة الأوكرانية "مات منذ زمن"، مشيرًا إلى أن كييف "لا تبحث عن حل دبلوماسي"، لأن الغرب يريد الاستمرار في إضعاف روسيا عبر أوكرانيا.
وأضاف البني لـ"إرم نيوز" أن أوكرانيا تراجعت عن تفاهمات مفاوضات إسطنبول التي جرت في بداية الحرب، نتيجة ضغوط غربية، مؤكدا أن واشنطن لا تضغط على كييف للذهاب نحو تسوية سلمية، بل تواصل ضخ الدعم العسكري بشكل واسع، فيما تظل روسيا مستعدة للتفاوض ضمن شروطها المعلنة، وعلى رأسها نزع سلاح أوكرانيا، منع انضمامها إلى الناتو، وسحب القوات الغربية من شرق أوروبا لما قبل عام 1991.
وأشار إلى تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي انتقد فيها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، معتبرًا ذلك مؤشرًا على توتر متصاعد في العلاقات بين موسكو وواشنطن، رغم اختلاف الاستراتيجيات بين الإدارتين الأمريكية والروسية.