تستعدُّ المفوضية الأوروبية لإطلاق مراجعةٍ واسعة لجهازها التنفيذي، الذي يضم نحو 32 ألف موظف؛ بهدف تحديث الإدارة الأوروبية، وتقليل التعقيد، والتأقلم مع "التقلبات كقاعدة جديدة"، غير أن هذا المشروع يتجاوز كونه مجرد إصلاح إداري؛ فهو يحمل في طياته إعادة رسم ميزان القوة بين المديريات العامة وبين مركز القرار المتمثل في رئاسة المفوضية.
ووفقًا لوثائق مسرّبة اطلعت عليها صحيفة "بوليتيكو"، فإن الحديث في بروكسل عن مراجعةٍ إدارية روتينية داخل المفوضية الأوروبية، لم يعد أمرًا عابرًا؛ فخلف العناوين التقنية عن "الكفاءة" و"خفض التكاليف" تتشكل معركة أعمق لإعادة تعريف موقع السلطة في الاتحاد الأوروبي، وتركيزها أكثر فأكثر في مكتب رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين.
من بيروقراطية متشعبة إلى سلطة مركزية
وبحسب الصحيفة، لطالما دفعت فون دير لاين، منذ 2019، باتجاه مركزية القرار في مكتبها لمواجهة الأزمات المتلاحقة مثل الجائحة والحرب في أوكرانيا، وهذا التوجه سمح للمفوضية بالتحرك بسرعة غير معهودة، لكنه أثار في المقابل نقاشًا حادًا حول تراجع استقلالية الأجهزة التقليدية لصالح دوائر القرار الضيقة.
ويرى الخبراء أن هذه الخطة الجديدة تفتح الباب أمام دمج الإدارات، وإلغاء العمليات غير الضرورية، وإعادة توزيع المهام، لكن جوهرها يكمن في تمكين مكتب الرئيسة من التحكم المباشر في "من يفعل ماذا"؛ ما يعني أن إعادة الهيكلة الإدارية قد تكون أيضًا إعادة هندسة سياسية للسلطة.
وبحسب الوثائق، ستشارك لجنة خارجية من خبراء في مجالات الرقمنة والثقافة المؤسسية والإصلاح الإداري في صياغة التوصيات النهائية بحلول نهاية 2026، ومع أن وجود هذه اللجنة يُقدَّم كضمانة للموضوعية، فإنه قد يُستخدم، وفق منتقدين في بروكسل، كغطاء تقني يمنح شرعية أكبر لمشروع سياسي في جوهره.
وبينما يُسوَّق المشروع باعتباره خطوة نحو "إدارة أكثر حداثة"، يخشى كثيرون أن يؤدي عمليًا إلى مزيد من المركزية على حساب مبدأ التوازن المؤسسي الذي تأسس عليه الاتحاد.
مفارقة "نهاية البيروقراطية"
وتُشير مصادر إلى أن الخطاب الرسمي يَعِد بـ"نهاية البيروقراطية الثقيلة" وتحويل الجهاز التنفيذي إلى إدارة أكثر رشاقة، لكن المفارقة أن تقليص الطبقات الإدارية قد يخلق بيروقراطية من نوع آخر "أكثر تركيزًا، وأقل شفافية، وأكثر ارتباطًا بشخص رئيسة المفوضية".
وبذلك، فإن هذا التحول يعكس معضلة أوروبية أعمق: "كيف يمكن للاتحاد أن يظل فعالًا وسريع الاستجابة دون أن يتحول إلى جهاز يُدار من قمة واحدة؟"، وهل يُعدُّ إصلاح المفوضية مجرد تحديث إداري أم خطوةً سياسية تهدد بنية الحكم داخل الاتحاد؟
في المحصلة، يُنظر إلى هذه المراجعة باعتبارها واحدة من أبرز رهانات إرث فون دير لاين السياسي؛ فهي تسعى لأن تُسجَّل كمن أنهت عصر البيروقراطية المعطلة، لكن الخطر يتمثَّل في أنها قد تُذكر أيضًا بأنها من ركّزت السلطة في يدها وأعادت إنتاج مركزية جديدة بوجهٍ أوروبي.
من جهة أخرى، بين الخطط المعلنة والأبعاد الخفية، تقف المفوضية على أعتاب اختبارٍ تاريخي؛ فإما أن ينجح المشروع في تحديث الإدارة الأوروبية وتبسيطها، أو يتحول إلى لحظة مفصلية تُعيد تشكيل الاتحاد على صورة سلطة مركزية تتجاوز حدود الإصلاح الإداري.