لم تعد الأزمة في مالي مرتبطة بتدهور بطيء في أطراف الدولة أو نزيف تدريجي في السلطة العسكرية المركزية، بقدر ما بات يكشف المشهد تسارعاً علنياً في انهيار المعادلة التي استند إليها المجلس العسكري منذ انقلابَي 2020 و2021، القائمة على التعهد بإعادة الأمن عبر فك الارتباط مع باريس، والاعتماد على الروس، وتقديم وعود باستعادة هيبة الدولة في الأطراف.
وفي ظل غياب القدرة على تأمين العاصمة أو ضمان سلاسل الإمداد الأساسية، ومع انكشاف الغطاء الخارجي الذي شكّل أحد أعمدة بقاء السلطة العسكرية هناك منذ اللحظة الأولى، فإن باماكو تعيش اليوم وضعاً استثنائياً، تتقاطع فيه العزلة الجغرافية مع الانكشاف الاستراتيجي، في مرحلة تعجز فيها الدولة عن الدفاع عن محيطها، وعن توفير الحد الأدنى من وظائفها.
هذا التحول، الذي أتى تتويجاً لشهور من التآكل الميداني، يكشف عن عمق الانفصال بين خطاب السيادة الذي روج له المجلس العسكري، وواقع السلطة التي تتآكل يوماً بعد يوم في مواجهة خصم لا يسعى إلى اجتياح مباشر، وإنما يراكم أوراق الضغط عبر حصار ممنهج، وتحويل العاصمة إلى مركز أزمة مفتوحة. وفي خلفية هذا الانهيار الداخلي، تتغير قواعد الاصطفاف الخارجي، حيث تتراجع باريس وموسكو، وتظهر واشنطن كلاعب بصيغة دعم غير مباشر، يعكس رغبة القوى الدولية في مراقبة التحولات دون التورط في تكاليفها الميدانية.
ويكشف مصدر أمريكي مطّلع على النقاشات الجارية داخل مجلس الأمن القومي في واشنطن، لـ"إرم نيوز" أن الإدارة الأمريكية تتابع ما يجري في مالي باعتباره نقطة اختبار حقيقية لاستراتيجية فك الارتباط العسكري التدريجي في الساحل، مضيفًا أن انهيار الوضع في باماكو "لا يستدعي حتى اللحظة إعادة النظر في خيار عدم التورط الميداني".
وبحسب المصدر، وهو مستشار دبلوماسي أمريكي مشارك في تقييمات السياسة الخارجية في ملف غرب أفريقيا، فإن المقاربة الأمريكية تميل إلى الاكتفاء بدور استخباراتي–لوجستي محدود، يجمع بين مراقبة التحركات الميدانية للجماعات المتشددة، وتقديم دعم غير مباشر لشركاء محددين في دول الجوار، دون أي التزام بحماية السلطة الانتقالية في مالي أو دعمها عسكرياً.
ويضيف أن الإدارة تدرك أن "أي محاولة لإعادة نشر قوات أو الدخول في شراكة أمنية شاملة ستفشل كما فشلت محاولات القوى الأوروبية، ما لم تتوفر سلطة شرعية مستندة إلى قاعدة اجتماعية حقيقية".
ويحذر من أن واشنطن تخشى من سيناريوهين متوازيين: "الأول، تمدد الجماعات المتطرفة نحو دول أكثر استقراراً مثل السنغال وساحل العاج، والثاني، انكشاف رقعة جيوسياسية على أطرافها قواعد أمريكية حيوية مثل النيجر. ولهذا، تعمل الإدارة على تقييم يومي لتأثير الانهيار المالي على مصالحها، لا على مصير النظام نفسه".
ويضيف المصدر، أن النقاشات الأخيرة داخل غرف التقييم الاستراتيجي لا تتركز على حماية النظام المالي أو إعادة تأهيل السلطة العسكرية الانتقالية، بل على كيفية إدارة الانهيار المحتمل دون أن يتحوّل إلى عدوى إقليمية.
ويوضح أن "القلق الحقيقي في واشنطن لا يرتبط بمن سيسيطر على باماكو، بل بما إذا كانت الجماعات المسلحة ستنجح في فرض منطقها على الممرات اللوجستية الحيوية في غرب القارة، مما قد يؤثر بشكل مباشر على استقرار دول شريكة مثل السنغال أو غينيا أو حتى ساحل العاج".
ويتابع: "تمت مناقشة سيناريوهات متعددة، من بينها تفعيل شبكات المراقبة الجوية عالية الدقة انطلاقاً من القواعد الأمريكية في النيجر، وتكثيف عمليات الاستطلاع غير المعلن فوق المناطق التي باتت خارج السيطرة الحكومية، لتأمين بيانات دقيقة حول تمركز الجماعات المتشددة، خصوصاً في محيط المثلث الحدودي".
لكنه يستدرك أن أي تدخل عسكري أمريكي مباشر يبقى غير مطروح على الطاولة حالياً، نظراً لانعدام الثقة في الشريك المحلي، وتآكل شرعية السلطة أمام شعبها.
المصدر يشير إلى أن البيت الأبيض بات يتعامل مع مالي بوصفها "دولة في طور التفكك المؤكد، ولكن غير المستعجل".
ويختم بالإشارة إلى أن الرهان الأمريكي، كما تتم مناقشته داخل دوائر الاستخبارات ومجلس الأمن القومي، يقوم على استيعاب الانهيار وليس مواجهته، والتموضع إقليمياً استعداداً لما بعد الدولة في مالي، وليس لإطالة عمرها الحالي.
ويضيف: "الزمن الدبلوماسي الأمريكي يتعامل مع مالي كملف لم يعد يحتمل حلولاً جزئية، وإنما يقتضي التهيئة لتفكك طويل الأمد، لن يكون استثنائياً في الساحل، بل ربما يصبح قاعدة جديدة للتعامل مع المنطقة بأكملها".
في حين يقول دبلوماسي أوروبي، شارك في صياغة السياسات المشتركة للاتحاد الأوروبي في الساحل، إن ما يجري في مالي "لم يعد يُقرأ في بروكسل كأزمة أمنية يمكن احتواؤها، إنما كإخفاق سياسي طويل الأمد لم تعد لأوروبا فيه مصلحة أو قدرة على الإنقاذ".
ويضيف أن الدول الأوروبية، خاصة فرنسا وألمانيا، وصلت إلى قناعة نهائية بأن بيئة الساحل – وفي القلب منها مالي – لم تعد تصلح لاستراتيجيات الاستقرار الميداني، ولا لتجارب بناء الدولة.
ويتابع حديثه لـ"إرم نيوز": "خسرنا خلال عشر سنوات من التدخل المباشر في مالي معظم أوراقنا؛ فالشريك المحلي أصبح غير موثوق، القاعدة الشعبية معادية، ونفوذنا السياسي والأمني تفكك بالكامل. أي عودة الآن ستكون انتحاراً سياسياً لا أحد مستعد لتحمّل تبعاته، خصوصاً في ظل الوضع الداخلي الأوروبي الضاغط".
ويؤكد المصدر، وهو دبلوماسي أوروبي معني بسياسات الساحل الأفريقي في جهاز الخدمة الخارجية للاتحاد الأوروبي، أن باريس لم تتلقَّ أي ضوء أخضر من شركائها الأوروبيين لإعادة طرح سيناريو العودة، بل إن معظم دول الاتحاد تميل اليوم إلى تعليق برامج التعاون الأمني وإعادة تقييم المقاربات الإنمائية التقليدية، مع تحويل الموارد نحو دول غرب أفريقيا التي لا تزال تحتفظ بعلاقات مستقرة نسبياً مع أوروبا.
كما يشير إلى أن النقاشات داخل لجان التنسيق الأوروبية باتت تستخدم مصطلح "إعادة التوازن بعيداً عن مثلث الفوضى" (مالي – النيجر – بوركينا فاسو)، في إشارة إلى تغير حاد في أولويات الدعم والشراكة.
ويضيف: "ثمة إدراك واضح أن المشروع الأوروبي في الساحل انتهى. لم نعد قادرين على تبرير وجودنا أمام شعوب لا ترغب بنا، ولا أمام مؤسسات لا تعترف بنا".
ورداً على سؤال حول ما إذا كانت أوروبا ستدعم مساراً تفاوضياً محتملاً مع الجماعات المتشددة في مالي، يوضح المصدر أن الاتحاد "لن يكون طرفاً في أي تسوية تُنتج منطقاً سياسياً قائماً على السلاح"، لكنه في المقابل لا يمانع ضمنياً أن يتحول الملف إلى طاولة محلية–إقليمية تُدار بمعزل عن الأجندة الأوروبية.
ويضيف المصدر أن كثيراً من مراكز القرار الأوروبية، خصوصاً في برلين وبروكسل، باتت تتعامل مع مالي كمثال حي على "الانكشاف الجيوسياسي" للاتحاد الأوروبي خارج حدوده المباشرة، ويقول: "لقد أردنا تقديم نموذج شراكة مدنية–عسكرية يُثبت فاعلية المقاربة الأوروبية، لكن ما حدث في مالي كان تدميراً تدريجياً لتلك الفرضية".
وتُظهر تقارير داخلية – بحسب المصدر – أن بعض الدول الأوروبية باتت تطالب بإعادة تعريف الساحل كمنطقة "خارج نطاق الالتزام الأمني الجماعي"، ما يعني فعلياً رفع الغطاء عن أي عمليات مستقبلية، وترك الملف للفاعلين الإقليميين أو لمن يملك أدوات أكثر مرونة.
كما يلفت إلى وجود انقسام متنامٍ بين الأعضاء الأوروبيين حول طريقة التعامل مع المشهد. ويختم الدبلوماسي حديثه بالتشديد على أن "اللحظة الأوروبية الحالية تجاه مالي هي لحظة مراجعة مؤلمة، لكنها ضرورية. لم نعد نتعامل مع دولة يمكن تصحيح مسارها، بل مع كيان لم يعد يشبه الدولة، ولا يمكن مخاطبته بأدوات السياسة التقليدية".
الباحث السنغالي عبدولاي باه، المتخصص في شؤون الساحل وغرب أفريقيا، يرى خلال حديثه لـ"إرم نيوز" أن الأزمة في مالي تجاوزت طور التمرد المسلح، وباتت تؤسس لنموذج مختلف من تقويض الدولة عبر شبكة موازية من الولاءات المحلية والمصالح العشائرية التي تديرها الجماعات المسلحة.
ويؤكد أن فشل الحكم العسكري لا يكمن فقط في عجزه عن كبح الجماعات، بل في غيابه عن بناء علاقة حقيقية مع المجتمعات الريفية، التي تخلّت عنه تدريجياً مقابل "سلطات الأمر الواقع".
ويضيف باه أن منطقة الساحل تشهد اليوم ما يسميه "تراجع فكرة الدولة المركزية كمرجع"، وهو ما يفسر ازدياد نفوذ التنظيمات المتشددة، ليس باعتبارها قوى أيديولوجية، ولكن كأطر تنظيمية بديلة.
ويشير إلى أن غياب المبادرة من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (الإيكواس) يعمّق هذا الفراغ، ويجعل الجوار مهدداً بتسرّب أزمات مماثلة.
ويعتبر باه أن اللحظة الحالية لا يجب أن تُقرأ فقط من زاوية "انهيار السلطة في باماكو"، إذ إنها من منظور أعمق تتعلّق بانفجار النسيج السياسي والاجتماعي للدولة الحديثة في الساحل.
ويشير إلى أن جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" لم تعد تتوسّع فقط من خلال السيطرة العسكرية، بل عبر آليات "تفويض اجتماعي مبطّن"، حيث تجد الجماعة نفسها مقبولة نوعاً ما ضمن مجتمعات فقدت أي ثقة بالدولة الرسمية.
ويضيف أن أحد أخطر التحولات يتمثل في نقل مركز الثقل السياسي من العاصمة إلى الهامش، وهو ما يجعل أي محاولة لاستعادة السيطرة عبر النخب أو الخطط المركزية محكومة بالفشل.
الجماعة، بحسب باه، لم تعد معزولة عن الديناميات القَبَلية والمجتمعية، فهي أصبحت تشتبك معها وتعيد إنتاج خطابها الديني داخل سياقات محلية.
ويُذكّر بأن السلطة العسكرية فشلت في استثمار لحظة "التحرر من فرنسا" لبناء نموذج سياسي جديد، بل اختارت الانكفاء على خطاب السيادة دون مضمون اجتماعي. وينظر باه إلى أن التحوّل المفصلي سيكون عندما تبدأ الجماعة الجهادية بفرض شروط تفاوض على قوى محلية – لا على المجلس العسكري– لأن هذا سيكون إعلاناً غير مباشر بانهيار الدولة من الداخل، وتحولها إلى كيان تراقبه المجتمعات ولا تعترف به كمرجعية.
في ختام تحليله، يحذّر باه من أن بقاء الأزمة المالية ضمن حدودها الحالية ليس مضموناً، وأن استمرار العجز الإقليمي والدولي عن تقديم مقاربة شاملة سيؤدي إلى تفكيك بطيء لشبكة الدول التي نشأت في مرحلة ما بعد الاستقلال، دون أن يتمكّن أحد من تقديم بديل مستقر.
بينما يعتبر فرانسوا لوران، الخبير الفرنسي في الجغرافيا السياسية الأفريقية، خلال حديثه لـ"إرم نيوز" أن ما يحدث في مالي يمثّل الهزيمة الكاملة لمشروع "إعادة تصنيع الدولة الأفريقية" الذي حاولت أوروبا تنفيذه منذ 2013.
ويصف التدخل الأوروبي بأنه فشل متعدد المستويات "عسكرياً من خلال انهيار التحالفات المحلية، سياسياً بسبب الرهان على أنظمة غير تمثيلية، واجتماعياً نتيجة تجاهل البنية القَبَلية والمجتمعية للمناطق الريفية".
ويرى أن الخطاب الأوروبي ظل أسير شعارات الديمقراطية والأمن والاستقرار، في حين كانت الوقائع على الأرض تتجه نحو نقيض تلك القيم. ويشير لوران إلى أن الإصرار على عسكرة العلاقة مع مالي عزّز الانفصال الشعبي، وأدى إلى تنامي العداء للوجود الأوروبي حتى في أوساط كانت تعتبره ضامناً للاستقرار.
ويؤكد أن الاتحاد الأوروبي لا يملك حالياً أي نية جدّية لإعادة الانخراط، وإنما يتّجه نحو إعادة تعريف أولوياته في غرب أفريقيا بعيداً عن خطوط التماس الملتهبة، مع التركيز على دول أكثر استقراراً، يمكن ضمان استدامة العلاقة معها، مثل السنغال وساحل العاج.
ويلفت لوران إلى أن أحد أسباب الانكفاء الأوروبي هو انكشاف البنية الداخلية للسياسات الأوروبية ذاتها، حيث تبيّن أن الكثير من البرامج التي وُصفت بالتنموية أو الأمنية كانت تدار ببيروقراطية ثقيلة، وتخضع لموازنات سياسية داخلية في الاتحاد الأوروبي، أكثر من كونها نابعة من فهم ميداني حقيقي لما يجري في بعض الدول الأفريقية ومنها مالي.
ويؤكد أن "الأزمة في مالي فضحت تصدع النموذج الأوروبي في إدارة الملفات الأفريقية، وعمّقت الشعور داخل الدوائر السياسية في بروكسل بأن أدوات التأثير القديمة – من الشراكة العسكرية إلى برامج الدعم غير المشروط – لم تعد صالحة".
لوران يعتبر أن ما حدث بين 2013 و2023 كان أقرب إلى وهم استراتيجي. فبينما اعتقدت أوروبا أنها تبني نموذجاً للدولة الهجينة (أمن–تنمية–حكم)، كانت القوى المحلية تعيد إنتاج توازناتها بعيداً عن تلك الهندسة.
ويختم لوران بقوله: "إن أكبر خسارة سياسية في ملف مالي يتمثل بانهيار الثقة الأوروبية في جدوى المشروع الأفريقي نفسه. لم تعد بروكسل تعتقد أن الساحل ممكن السيطرة عليه لا بالقوة، ولا بالشراكة، ولا حتى بالمساعدات. وهذا الانسحاب الهادئ يعكس نهاية مرحلة طويلة من الأوهام السياسية".