تمثل التسريبات الإعلامية عن عزم برلين توسيع صلاحيات جهاز الاستخبارات الخارجية انعطافة بالغة الدلالة، إذ تشير، وللمرة الأولى منذ انشاء هذا الجهاز، إلى تغيير في العقيدة الأمنية الألمانية.
ومن المعروف أن السياسة الأمنية الألمانية كُرّست، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لنموذج حذر يتوخى ضبط النفس، وعدم الانخراط في القضايا الدولية إلا في أضيق الحدود.
وكان دور الاستخبارات الخارجية محصورًا في جمع المعلومات وتحليلها، مع حظر لأي انخراط في عمليات تخريبية أو أنشطة "سرية" بالمعنى المعروف لدى استخبارات القوى الكبرى، مثل: الولايات المتحدة، أو روسيا، أو فرنسا، أو بريطانيا.
ويعزو خبراء هذا "النموذج الأمني وكذلك العسكري المسالم"، إلى الدور الكارثي لألمانيا النازية التي جلبت المآسي للقارة، ما دفعها إلى الاهتمام بإعادة الإعمار، والنهضة الاقتصادية، في سعي مقصود إلى إحداث قطيعة مع ذاكرة تاريخية مثقلة بتجارب مريرة مع الدولة الأمنية، سواء في الحقبة النازية أو حتى في تجربة جهاز "شتازي"، سيئ الصيت، في ألمانيا الشرقية.
ومن هنا يلفت الخبراء إلى أن السماح، الآن، لجهاز الاستخبارات الخارجية بتنفيذ عمليات تخريبية ضد الخصوم، والقيام بهجمات سيبرانية، والتلاعب سراً بمعدات عسكرية معادية وغير ذلك من الصلاحيات التي كانت محظورة، لا تمثل مجرد تحديث إداري أو تقني، بل تنطوي على تحول جذري في فهم ألمانيا لدورها الأمني.
ووفقاً لتقارير سرّبتها منابر ألمانية مثل ( WDR وNDR ) اللتين تعدان من أهم المؤسسات الإعلامية، ولهما دور واضح في التحقيقات الاستقصائية، وكشف الملفات الحساسة، فإن مشروع القانون الجديد، ينقل جهاز الاستخبارات الخارجية من حالة الاكتفاء بالمراقبة والتقييم إلى السعي إلى امتلاك أدوات التدخل المباشر لإضعاف الخصم، ومنع التهديد قبل تحوله إلى خطر فعلي.
وتشمل الصلاحيات المقترحة تنفيذ عمليات تخريب سرية خارج الأراضي الألمانية، والرد النشط على الهجمات السيبرانية عبر تعطيل البنى التحتية الرقمية التي تنطلق منها، واستخدام موسع لتقنيات الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك تحليل البيانات الضخمة والتعرف على الوجه، بل وحتى السماح باقتحام المنازل سراً لتركيب أجهزة تنصت وتجسس.
ورغم أن هذه الصلاحيات مشروطة بإعلان ما يسمّى "وضع استخباراتي خاص"، يقره مجلس الأمن القومي الألماني، الذي يضم النخبة السياسية الحاكمة، إلا أن إدخال هذه الأدوات إلى المنظومة القانونية بحد ذاته يعكس تحولاً من حالة رد الفعل و"النأي بالنفس"، إلى حالة الردع الوقائي والمبادرة.
دلالة التوقيت
يرى خبراء أن توسيع الصلاحيات في هذا التوقيت يقدم تفسيراً للخطوة، فهو يؤكد على التهديد الروسي الذي تفاقم منذ نشوب الحرب الأوكرانية، إذ دخلت القارة مرحلة أمنية جديدة قوضت مفهوم الحرب التقليدية، لتتخذ "شكلاً هجيناً" يمزج بين القوة العسكرية، والقرصنة الإلكترونية، والمكر الاستخباراتي، والتضليل الإعلامي.
وكانت ألمانيا، هدفاً لهذا النوع من المواجهة، إذ كشفت تقارير صادرة عن هيئة حماية الدستور الألمانية (الاستخبارات الداخلية) أن أكثر من 40% من الهجمات السيبرانية التي استهدفت مؤسسات وبنى تحتية ألمانية خلال العامين الفائتين تورطت فيها جهات مرتبطة بموسكو.
ورغم أهمية العامل الروسي، غير أن خبراء يرون أن اختزال سبب توسيع الصلاحيات في ذلك لا يقدم تفسيراً كافياً، فالتوقيت يعكس، من زاوية أعمق، قلقاً متزايداً يتعلق بمستقبل النظام الأمني الأوروبي، خاصة، في ضوء تصدع الحلف الوثيق عبر الأطلسي.
ويبين الخبراء أن الثقة الأوربية، لا سيما الألمانية، بالمظلة الأمنية الأمريكية تتضاءل في ظل تصاعد نبرة "الانعزال" داخل الولايات المتحدة، ورفع ترامب لشعار "أمريكا أولاً"، والجدل المزمن حول تقاسم الأعباء الدفاعية في إطار حلف الأطلسي... وغير ذلك من العوامل التي أجبرت برلين على مراجعة سياساتها الأمنية.
ويكشف خبراء أن ثمة قناعة بدأت تترسخ في الأروقة الرسمية الأوروبية بأن واشنطن باتت تخضع مظلتها الأمنية لمنطق "الصفقات"، وتبتعد أكثر فأكثر عن مفاهيم الشراكة والتعاون مع أوروبا لتركز على مناطق حيوية أخرى، مثل: الصين، ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ، وترتيب ملفات الشرق الأوسط.
ويستدرك الخبراء أن برلين، ورغم هذا الفهم الأمني الجديد، لا تسعى إلى استبدال واشنطن كحليف تقليدي، بل إلى إعادة تعريف العلاقة معها على أساس شراكة متوازنة تكون فيها ألمانيا فاعلاً أمنياً لا مجرد طرف تابع.
"إرهاب" عابر للحدود
ولا يمكن فهم هذا التحرك الأمني الألماني بمعزل عن عامل حاسم ومهم، بحسب وصف الخبراء، يتمثل في "الهجمات الإرهابية الدامية" التي شهدتها دول أوروبية، بينها ألمانيا.
وواجهت دول أوروبية، خلال العقد الفائت، عمليات دامية من "الإرهاب العابر للحدود"، نفذتها أو ألهمتها شبكات خارجية مرتبطة بتنظيمات مثل "داعش"، وفي الحالة الألمانية، تحديداً، كشفت تحقيقات لاحقة لعدد من الهجمات، أن بعض المنفذين كانوا على ارتباط مع شبكات دعم خارجية، سواء عبر التمويل، أو التوجيه والتحريض الأيديولوجي.
ورغم أن الاستخبارات الألمانية كانت تملك هذه المعلومات غير أن صلاحياتها المحدودة كانت تكبّلها، وتعيق سعيها إلى التدخل المباشر، وإحباط الخطر الداهم قبل حدوثه.
ويشدد الخبراء على أن توسيع الصلاحيات يأتي، من هذه الزاوية، كاستجابة لتجربة أوروبية مؤلمة تذكر الحكومات بأن "الأمن الوقائي الصارم" الذي يمتد إلى خارج حدود الدولة لم يعد ترفاً، بل ضرورة.
ملء الفراغ
وتذهب بعض التحليلات إلى أبعد مما سبق، معتبرة أن توسيع الصلاحيات يتجاوز حدود ألمانيا ليتعلق بمسألة إعادة توزيع الأدوار الأمنية داخل الاتحاد الأوروبي.
ويوضح الخبراء أن فرنسا احتكرت لعقود دور القوة الاستخباراتية، بفضل جهازها الخارجي الذي يمتلك صلاحيات هجومية واسعة، وهو ما منح باريس ثقلاً أمنياً داخل التكتل الأوروبي.
ومثّل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي فجوة أمنية واضحة، بوصفها الذراع الاستخباراتية الأقوى أوروبياً.
وضمن هذا السياق، يمكن فهم التحول الألماني كجزء من محاولة لملء هذا الفراغ، فبرلين لا تسعى، بهذه الإجراءات، إلى حماية أمنها فقط، بل إلى إعادة صياغة موقعها كقوة محورية في ضمان أمن القارة.
وفي المجمل، يتقاطع هذا المسار الألماني في تعزيز قدراته الاستخبارية مع مسار أوسع عبر عنه المستشار الألماني السابق أولاف شولتس بـ"نقطة التحول" في أعقاب نشوب الحرب الأوكرانية، إذ عكفت برلين على تطوير قدراتها العسكرية والدفاعية، وكذلك اللأمنية، وخصصت مليارات الدولارات لمواجهة التحديات المتزايدة.
ومن المتوقع أن يثير هذا الإجراء نقاشات حادة ومفهومة في المرحلة المقبلة، في الداخل الألماني، وقد يتحول إلى ورقة انتخابية تستخدمها الأحزاب، وقد تثير انقسامات، لكن خبراء يرجحون أن المفاضلة بين "الأمن والحرية" ستكون في صالح الأمن.