الكرملين: مشاركة الأوروبيين في مفاوضات أوكرانيا "لا تبشّر بالخير"
وصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى العاصمة الطاجيكية دوشنبه في زيارة دولة تستمر ثلاثة أيام وتمثل لحظة سياسية تبدو محملة بالرمزية أكثر من البروتوكول.
ووصفت زيارة بوتين بأنها الأعلى من حيث التصنيف الدبلوماسي؛ نظرًا لأنها تأتي في وقت تحاول فيه موسكو كسر طوق العزلة الغربية، ويتجه أنظار العالم إلى آسيا الوسطى بوصفها المسرح الأهم لإعادة رسم موازين القوى بعد الحرب في أوكرانيا.
فخلف مشاهد الاستقبال الرسمي والأعلام المتبادلة، يختبئ مشهد أكثر تعقيدًا، إذ تسعى موسكو إلى تثبيت نفوذها في منطقة تراها "عمقًا استراتيجيًا" لأمنها القومي، وتتعامل معها كجزء من مشروع "الفضاء الأوراسي الكبير" الذي تتشارك فيه مع الصين لمواجهة التمدد الغربي.
جدول زيارة بوتين لا يقتصر على محادثاته الثنائية مع نظيره إمام علي رحمون حول تعزيز الشراكة الاستراتيجية والعلاقات الدفاعية، بل يتضمن مشاركته في قمة روسيا – آسيا الوسطى الثانية واجتماع مجلس رؤساء دول رابطة الدول المستقلة؛ ما يمنح الزيارة طابعًا إقليميًا واسع المدى.
ووفقًا للكرملين، فإن المحادثات ستركز على التعاون الدفاعي، وتعزيز استخدام العملات الوطنية في التعاملات التجارية بين موسكو ودوشنبه، في خطوة تُقرأ على نطاق واسع كمحاولة للالتفاف على العقوبات الغربية.
وفي المقابل، ترى دوشنبه في علاقتها مع موسكو مظلة حماية ضرورية، خاصة في ظل الاضطرابات الأمنية على الحدود مع أفغانستان، حيث تمثل طاجيكستان حاجزًا دفاعيًا أمام تمدد الفوضى من الجنوب، وممرًا حساسًا في مسارات تهريب المخدرات التي تشكل تهديدًا مباشرًا لروسيا.
مذكرة اعتقال بوتين
ورغم أن منظمة هيومن رايتس ووتش دعت طاجيكستان إلى اعتقال بوتين استنادًا إلى مذكرة المحكمة الجنائية الدولية الصادرة بحقه في مارس 2023، إلا أن القيادة الطاجيكية تعاملت مع الدعوة بتجاهل كامل، وهو ما يعكس حرصها على تأكيد موقعها ضمن دائرة التحالف الروسي دون الالتفات إلى الضغوط الغربية.
ويرى خبراء أن زيارة بوتين لطاجيكستان تتجاوز الإطار البروتوكولي، وتحمل أبعادًا سياسية وأمنية واضحة، فهي تأتي في لحظة مفصلية تحاول فيها روسيا إثبات أن عزلة الغرب لا تعني انكفاءها، بل انفتاحًا مضادًا نحو الشرق.
وأشار الخبراء إلى أن واشنطن وأنقرة تتحركان بقوة داخل المنطقة عبر منصات مختلفة، في محاولة للحد من النفوذ الروسي وإعادة رسم موازين القوى في آسيا الوسطى.
وأكدوا أن بوتين لا يسعى إلى استعادة أمجاد سوفيتية بقدر ما يهدف إلى تثبيت حضور بلاده ضمن نظام دولي متعدد الأقطاب، وضمان بقاء جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق في دائرة التأثير الروسي، في إطار مسعى أوسع لتشكيل محور شرقي موازٍ للتحالف الغربي.
وقال آصف ملحم، مدير مركز GSM للأبحاث والدراسات في موسكو، إن ملف طاجيكستان لا يمكن النظر إليه بمعزل عن المشهد العام في آسيا الوسطى، موضحًا أن المنطقة تُعد ساحة التقاء بين قوى كبرى مثل روسيا، والصين، والهند، وباكستان، وإيران، وجميعها ترى في آسيا الوسطى ركيزة أساسية للنظام الدولي الجديد الذي تعمل موسكو وبكين على ترسيخه.
وأكد في تصريحات خاصة لـ"إرم نيوز" أن روسيا تنظر إلى جمهوريات آسيا الوسطى الخمس، وهي: "طاجيكستان، أوزبكستان، قرغيزستان، تركمانستان، وكازاخستان"، كجزء من الفضاء الأوراسي الكبير، الذي تحرص موسكو على تعزيز التكامل معه، خاصة مع استمرار محاولات القوى الغربية لاختراق هذا الفضاء منذ انهيار الاتحاد السوفيتي.
وأضاف ملحم أن الولايات المتحدة تسعى بدورها إلى ترسيخ وجودها في المنطقة عبر منصة 5+1، من خلال مشاريع ثقافية واقتصادية وعلمية، إلى جانب مساعٍ للسيطرة على مواقع ذات أهمية استراتيجية، مثل قاعدة «بايكونور» الفضائية وحقول التجارب النووية في كازاخستان.
وأشار إلى أن واشنطن تحاول منذ سنوات إضعاف النفوذ الروسي الثقافي في آسيا الوسطى، من خلال تقليص حضور اللغة الروسية في مؤسسات التعليم والإعلام، بعدما كانت الأجيال السابقة تتحدثها بطلاقة، معتبرًا أن هذا التحول يحمل أبعادًا سياسية واضحة.
وفي هذا الإطار، أوضح أن زيارة الرئيس فلاديمير بوتين إلى طاجيكستان تأتي في سياق تعزيز الوجود الروسي في منطقة استراتيجية تحدها الصين وكازاخستان وأوزبكستان وأفغانستان وباكستان، وتطل على الهند عبر إقليم جامو وكشمير المتنازع عليه؛ ما يجعلها محورًا رئيسيًا في مشروع التكامل الأوراسي الذي تتبناه موسكو.
ولفت إلى التحركات التركية المتنامية عبر ما يُعرف بـ"الاتحاد التركي" أو "منظمة الشعوب التركية"، التي تضم كازاخستان وأوزبكستان وأذربيجان وقرغيزستان وتركيا، مؤكدًا أن هذا المشروع يحظى بدعم أمريكي غير معلن بهدف خلق كتلة تفصل شمال المنطقة عن جنوبها ضمن صراع النفوذ الدائر بين القوى الكبرى.
البعد الأمني للزيارة
وحول البعد الأمني، شدد مدير مركز GSM للأبحاث والدراسات في موسكو على أن طاجيكستان تمثل ممرًا رئيسيًا لتهريب المخدرات من أفغانستان نحو القوقاز وروسيا.
وحذر من أن شبكات التهريب لا تعمل بمعزل عن تغطية بعض الأجهزة الأمنية العالمية، مستشهدًا بمرحلة الاحتلال الأمريكي لأفغانستان التي شهدت انتعاش تجارة الأفيون بصورة غير مسبوقة.
وأضاف أن هذا النشاط يُعد تهديدًا مباشرًا لأمن روسيا ومجتمعها؛ ما يفسر حرص موسكو على تعزيز التعاون العسكري والأمني مع دوشنبه، خاصة في ظل الاضطرابات المستمرة على الحدود الطاجيكية – الأفغانية.
وقال د. ملحم: إن زيارة بوتين لطاجيكستان تحمل طابعًا استراتيجيًا بامتياز، وجاءت بعد تحضيرات مكثفة من لجان فنية؛ ما يعكس وجود ملفات حساسة تتعلق بالأمن والدفاع والتكامل الإقليمي، تسعى موسكو إلى حسمها في مواجهة التصعيد الغربي ومحاولات تطويق نفوذها في آسيا الوسطى.
وفي ذات السياق، قال رامي القليوبي، الأستاذ بكلية الاستشراق بالمدرسة العليا للاقتصاد بموسكو، إنه لا مجال للحديث عن الأمجاد السوفيتية؛ لأن هذه هي الزيارة الثالثة عشرة التي يجريها الرئيس فلاديمير بوتين إلى طاجيكستان خلال خمسة وعشرين عامًا من حكمه.
وأضاف القليوبي في تصريحات خاصة لـ«إرم نيوز» أن الزيارة ذات طابع إقليمي، حيث يلتقي خلالها مع الرئيس إمام علي رحمون، ومع الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف للمرة الأولى منذ فترة طويلة.
وأكد أن هناك قضايا حيوية على جدول المباحثات، بعضها ثنائي بين روسيا وطاجيكستان، مثل قضية المهاجرين الطاجيك في روسيا، خصوصًا بعد الهجوم الإرهابي الذي نفذه طاجيك على قاعة العروض "كروكوس سيتي هول" في مارس 2024، وما تبعه من مضايقات واتهامات عديدة ضد الجالية الطاجيكية هناك.
وأشار إلى أن طاجيكستان تشترك بحدود مع أفغانستان، ولديها خصومة مع حركة طالبان؛ ما يجعل التنسيق الأمني في آسيا الوسطى أمرًا ضروريًا.
من جانبه، قال د. عبد المسيح الشامي، خبير العلاقات الدولية، إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يسعى منذ توليه الحكم إلى استعادة أمجاد روسيا.
وأضاف الشامي أن الدول التي انفصلت عن روسيا والاتحاد السوفيتي، وكذلك الدول التي كانت لها علاقة عقائدية بالاتحاد السوفيتي من خلال الأيديولوجيا الشيوعية، تمثل أولوية دائمة بالنسبة له.
وأشار الشامي في تصريحات خاصة لـ"إرم نيوز" إلى أن بوتين يحرص دومًا على أن تكون لروسيا علاقات قوية ونفوذ وصوت مؤثر في تلك الدول، وتأتي طاجيكستان كواحدة من أهم الدول التي تمتلك علاقات جيدة مع روسيا، والتي تحظى فيها روسيا بنفوذ كبير بشكل أو بآخر.
وأوضح أن زيارة الرئيس بوتين لطاجيكستان، وإن كانت تحمل طابعًا بروتوكوليًا بلا شك، إلا أنها تعكس أيضًا سعيًا واضحًا وحرصًا شديدًا من جانبه على أن تكون العلاقات الثنائية على أعلى مستوى، وأن يكون هناك تنسيق كبير بين البلدين، بما يضمن استمرار تلك الدول في الدوران ضمن الفلك الروسي.
وأكد الشامي أن روسيا اليوم تحاول تشكيل تحالف آسيوي وشرقي واسع، في مواجهة التحالف الغربي الذي يشن حربًا مفتوحة عليها في أوكرانيا.
وتابع: "لذلك، فإن هذه العلاقات الثنائية والإقليمية باتت تحظى بأهمية استراتيجية كبيرة بالنسبة لروسيا في الوقت الراهن".