تشهد جزيرة كورسيكا الفرنسية في تطور سياسي غير مسبوق، تقاربًا لافتًا بين التجمع الوطني اليميني المتطرف وحركة قومية محلية لطالما كانت على خلاف مع الدولة الفرنسية.
هذا التحالف الجديد، الذي يُنظر إليه باعتباره مختبرًا سياسيًا قد يُعاد إنتاجه في مناطق فرنسية أخرى، يثير جدلًا واسعًا حول مستقبل الهوية الكورسيكية، وموازين القوى داخل الجزيرة، وطموحات اليمين المتطرف بقيادة مارين لوبان في تثبيت حضوره داخل الفضاءات الإقليمية.
مختبر جديد للتجمع الوطني
بات التجمع الوطني، الداعم لمرشح الانتخابات البلدية نيكولا باتيني، وهو شخصية محلية ذات نزعة هوياتية، يحلم بالسيطرة على الجزيرة خلال الانتخابات الإقليمية عبر الدفاع عن الهويات المحلية، في خطوة تُعد الأولى من نوعها.
يخطو الحزب خطوة غير مسبوقة بمحاولة الاندماج مع الحركة القومية الكورسيكية الجديدة، وهو تحرك يعكس رغبة التجمع الوطني في توسيع حضوره خارج حدود البر الرئيسي الفرنسي من خلال تقديم نفسه كحامٍ للهوية الإقليمية، بحسب مجلة "لوبوان".
زيارة إلى باستيا.. بداية الحكاية
لويس بيتري، البالغ من العمر 91 عامًا، يروي قصصًا عن مضايقات جاره الجديد في مبنى إسكان اجتماعي بجنوب باستيا، ويربط بين هذه المضايقات وما يراه تغيّرًا حضاريًا ناتجًا عن الهجرة.
يتذكر بيتري أيام عام 1975 عندما كان كل شيء هادئًا وكانت كل العائلات في المبنى كورسيكية، مؤكدًا أن الوضع الحالي مختلف تمامًا.
إلى جانبه يجلس نيكولا باتيني الذي يستمع بعناية ويواسي بيتري قائلاً إنهم سيضعون حدًا لهذه الأوضاع عند وصولهم إلى السلطة. هذا اللقاء يعكس طبيعة العلاقة بين المواطنين المحليين والمرشح الذي اختاره التجمع الوطني كواجهة للنفوذ على الجزيرة.
باتيني.. رمز التحول السياسي
نيكولا باتيني، البالغ من العمر 33 عامًا، يتمتع بمسار استثنائي شكّل جزءًا من هويته السياسية. في شبابه، انجذب إلى القضية الانفصالية، وواجه السجن بسبب عملية شديدة الخطورة كانت تتضمن سيارة مفخخة. خلال سنوات سجنه، استثمر وقته في إتمام تعليمه واستكمال الدراسات الجامعية في اللغة والثقافة الكورسيكية، وهو الوقت الذي صقلت فيه قناعاته الوطنية.
بعد هجمات باتاكلان عام 2015، أعاد ترتيب أولوياته فاعتبر أن الخطر الحقيقي على الهوية الغربية لم يعد فرنسا، بل الإسلاموية، وهو ما شكل خلفية لتحالفه مع التجمع الوطني لاحقًا.
من الانفصالية إلى التحالف مع اليمين المتطرف
بعد خروجه من السجن، انضم باتيني إلى الحركة القومية الكورسيكية، ثم انفصل عنها عام 2024 ليؤسس حركة موسّا بلاتينا. حصلت هذه الحركة على 4% في الانتخابات التشريعية، وهو ما دفع التجمع الوطني لعقد شراكة مفاجئة وغير مسبوقة مع الحركة في سبتمبر 2025، مستهدفًا الانتخابات البلدية والتشريعية، والأهم الانتخابات الإقليمية لعام 2028.
هذه الخطوة تعكس استراتيجية الحزب اليميني المتطرف في محاولة تكريس حضوره داخل الجزيرة عبر تبني خطاب الهوية المحلية والتقارب مع القوميين الجدد.
استراتيجية جديدة.. "كورسة" اليمين المتطرف
باتيني يعكف على بناء رواية سياسية تجعل الهوية الكورسيكية جزءًا لا يتجزأ من الهوية الفرنسية، في مواجهة التحديات التي يمثلها ما يسميه "الووك" والإسلاموية. مستشار مارين لوبان، فيليب أوليفييه، رأى في كورسيكا فرصة لتجربة تحويل التجمع الوطني إلى حزب يجمع بين الطابع المحلي والهوياتي في كل منطقة فرنسية.
وبالرغم من ذلك، يحذر محللون سياسيون مثل بنجامين مورييل من أن هذا النموذج قد ينجح في كورسيكا لكنه لن يكون قابلًا للتطبيق في مناطق فرنسية أخرى ذات خصوصيات إقليمية مختلفة.
التجذر في الشارع الكورسيكي
خلال السنوات الماضية، نجح التجمع الوطني في تعزيز وجوده على الأرض، إذ انتقل عدد أعضائه من 45 عضوًا عام 2020 إلى أكثر من 2000 عضو اليوم، وفقًا لتصريحات فرانسوا فيلوني، رئيس التجمع الوطني في كورسيكا.
وعلى الرغم من نجاح مارين لوبان في الانتخابات الرئاسية على مستوى فرنسا، فإن القوميين الكورسيكيين لا يزالون يهيمنون على الانتخابات المحلية، مما يحد من قدرة التجمع الوطني على الاستقرار بشكل كامل على الجزيرة.
أزمة الثقة في القوميين الكورسيكيين
يشير سياسيون محليون إلى أن القوميين الكورسيكيين فقدوا جزءًا من شعبيتهم بسبب عدم تنفيذهم وعودًا تتعلق باللغة والهوية منذ 2021، وهو ما ساهم في صعود التجمع الوطني كقوة منافسة.
التحالف بين الحزبين، على الرغم من كونه واعدًا انتخابيًا، يثير شكوكًا حول استمراريته ونجاحه على المدى الطويل.
التحالف بين التجمع الوطني وحركة موسّا بلاتينا يواجه تحديات داخلية، حيث غادر بعض الأعضاء غير الراضين عن هذا الزواج السياسي. في الاجتماع الأول الذي جمع الطرفين، جلس كل منهما على جانبه دون أن يختلط، وهو مؤشر واضح على هشاشة هذا التحالف البشري والفكري.
رهان محفوف بالمخاطر
باتيني يسعى إلى طمأنة أنصاره والتأكيد على سياسته الهوية، ولكنه يتجنب خلال الحملة النقاش حول بعض المطالب الأكثر حساسية مثل أولوية المولودين من أصول كورسيكية قبل 1960، محافظًا على استراتيجيته الانتخابية في الوقت ذاته.
بالرغم من الطموح الكبير، يظل التحالف محفوفًا بالمخاطر، حيث قد يتحول باتيني إلى عبء على التجمع الوطني على الصعيد الوطني بسبب ماضيه وأفكاره المتشددة، في وقت يسعى الحزب لتعزيز حضوره في الجزيرة.
كما أن النجاح على المستوى المحلي قد لا يضمن استمرارية هذا النموذج على المدى الطويل، إلا أن التجربة الكورسيكية تمثل الآن اختبارًا سياسيًا كبيرًا لقدرة التجمع الوطني على توسيع رقعة نفوذه.