في واحدة من أكثر لحظات الحرب تعقيدًا وتناقضًا، أتمَّت موسكو وكييف تنفيذ اتفاق تبادل الأسرى بصيغة ألف أسير من كل جانب، في ترجمة عملية للاتفاق الذي تم التوصل إليه خلال محادثات إسطنبول منتصف مايو الجاري.
الصفقة وصفت بأنها الأكبر منذ اندلاع الحرب في فبراير 2022، ونفذت عبر مراحل متتالية لضمان الأمن اللوجستي، وتحت رقابة مباشرة من ممثلين أمميين وإقليميين، رغم عدم وجود إعلان رسمي عن أي وساطة دولية جديدة.
وفي مقابل هذه الخطوة، لم تتوقف المعارك على الأرض، خاصة وأن روسيا واصلت شن هجمات مكثفة بالطائرات المسيرة والصواريخ على مدن أوكرانية كخاركيف ودنيبرو وكييف، ما أسفر عن سقوط قتلى وجرحى.
وردّت أوكرانيا بمحاولات هجوم محدودة على أهداف عسكرية داخل الأراضي الروسية، وسط تصاعد حدة ما بات يُعرف بـ«حرب المسيرات» بين الجانبين.
اللافت أن هذه الخطوة الإنسانية جاءت بالتوازي مع تعقيد المشهدين العسكري والسياسي، بعد طرح موسكو فكرة "للمنطقة العازلة" على الحدود مع خاركيف وسومي، رغم تمسك كييف بمواقفها السابقة، دون مؤشرات واضحة عن تغير في خطوطها التفاوضية.
وفي ظل استمرار الجهود الدبلوماسية الخلفية، هل يمكن أن تسهم عملية تبادل الأسرى في تبديد "أزمة الثقة" بين الطرفين؟ وهل يمكن اعتبارها تمهيدا لاتفاق مرتقب رغم تصاعد حرب المسيرات بين الجانبين؟
وأكد خبراء أن عملية تبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا، والتي تُعد الأكبر منذ بدء الحرب، تمثل خطوة ذكية من موسكو لكسر الجمود في المفاوضات، ولبناء صورة إيجابية أمام الرأي العام الدولي.
وقال آصف ملحم، مدير مركز "جي إس إم" للدراسات الاستراتيجية، إن عملية تبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا كانت قائمة منذ اندلاع الحرب، لكنها اقتصرت سابقًا على أعداد محدودة، كأن يكون التبادل أسيرًا مقابل آخر، أما الصفقة الأخيرة، فهي الأكبر من نوعها منذ بدء الصراع.
وأضاف، لـ"إرم نيوز"، أن مبادرة التبادل جاءت من الجانب الروسي، في خطوة وصفها بـ"الذكية"، إذ لا يمكن للوفد الروسي أن يغادر طاولة المفاوضات دون أي اتفاق. وكشف أن الروس لوحوا للطرف الأوكراني خلال محادثات إسطنبول، إذا لم تتخلوا الآن عن المقاطعات الأربعة فستتخلون لاحقًا عن ست أو ثماني مقاطعات.
وأشار ملحم إلى أن طرح ملف التبادل جاء كنوع من تهدئة الأجواء وبادرة حسن نية لبناء الثقة، رغم تعقيدات الحرب، التي وصفها بأنها امتداد لصراع قديم من عهد الاتحاد السوفييتي، لكنه اليوم أكثر سخونة وتعقيدًا بسبب الدعم الغربي لأوكرانيا.
ولفت إلى أن روسيا استغلت الزخم الإعلامي العالمي حول اجتماع إسطنبول لتُظهر أنها لا تُهدر الوقت، بل تطرح خطوات ملموسة نحو تسوية، حتى وإن كانت محدودة، في وقت تواصل فيه تطوير تكتيكاتها العسكرية ضد أوكرانيا.
وأشار إلى تراجع فعالية المسيرات الأوكرانية داخل الأراضي الروسية، ما أدى إلى تصعيد لافت؛ حيث شنت موسكو مؤخرًا هجومًا قياسيًّا بالمسيّرات، وأعادت طرح فكرة إنشاء منطقة عازلة في سومي وخاركيف.
وأكد ملحم أن روسيا إلى جانب مطالبتها بالمقاطعات الأربع، بدأت تلمّح إلى إمكانية ضم مناطق إضافية مثل سومي وخاركيف، إذا لم تُلبى مطالبها، وأن الغرب، من جهته، يدرس نشر قوات أوروبية غرب نهر دنيبر، وهو ما تناقشه كل من فرنسا وبريطانيا، رغم عدم اتخاذ خطوات عملية حتى الآن.
من جانبه، قال المحلل السياسي والخبير في الشؤون الأوروبية، كارزان حميد، إن تبادل الأسرى بين دول متحاربة أو في نزاع دبلوماسي هو أمر معتاد، وأن السؤال الحقيقي الآن، ماذا بعد؟
وأوضح حميد، لـ"إرم نيوز"، أن هذه هي المرة الأولى التي تتفق فيها روسيا وأوكرانيا على صفقة تبادل دون وساطة دولية، في سابقة قد تفتح الباب أمام محادثات مباشرة أو برعاية دولية لاحقة، مشيرًا إلى إمكانية عقد لقاء جديد بين الطرفين في الفاتيكان أو دولة محايدة.
وأشار إلى أن التحولات السياسية الأخيرة عقدت المشهد، خاصة مع استمرار الخلافات في تفسير نتائج الحرب الدائرة منذ فبراير 2022، وهو ما يثقل الأجواء التفاوضية بين الطرفين.
وشدد على أن كلًّا من موسكو وكييف تدخلان أي مفاوضات محملتين بشروط مسبقة، وسعي حثيث لفرض أكبر قدر من التنازلات على الطرف الآخر.
واعتبر أن اجتماع إسطنبول، رغم فشله في تحقيق تفاهمات كبرى، إلا أنه أفضى فقط إلى تنفيذ تبادل أسرى لنحو ألف شخص من الجانبين خلال 3 أيام.
وقال المحلل السياسي، إن التفاوض لا يعني توقف القتال، بل قد يسهم أحيانًا في تصعيد المواجهات، خاصة أن روسيا دخلت مرحلة جديدة تسعى فيها لإنشاء منطقة عازلة، وتحاول أوكرانيا الحفاظ على ما تبقى من مواقع استراتيجية.
وأكد أن بوتين يربط أي تفاوض بتغيرات الميدان، ويواصل زيلينسكي إطلاق التصريحات المتحدية والمسيئة لخصمه الروسي، الأمر الذي يعقّد احتمالات اللقاء المباشر بينهما.
وتابع أنّ "زيلينسكي لن يحقق بسهولة رغبة عقد لقاء مع بوتين، الذي يعتبر هذا اللقاء مسألة ترتبط بمكانته السياسية والدبلوماسية".
واعتبر أن نهاية الحرب قد تبدأ حين تتوقف أوكرانيا عن إرسال رسائل التهديد غير المباشرة، وتُوقف حملات التحريض ضد الروس.
ورأى أن موسكو، عندما تتمكن من شل القدرات الأوكرانية، قد تدخل في مفاوضات جدية شبيهة بما جرى في صراعاتها مع جورجيا والشيشان في تسعينيات القرن الماضي.