مصدر دبلوماسي أوروبي: خطة الضمانات الأمنية تحظى بدعم إدارة ترامب
لم يكن فشل قمة الصين والاتحاد الأوروبي الأخيرة حدثًا عابرًا في أجندة العلاقات الدولية، بل كان أشبه بمرآةٍ عكست اختلافًا جوهريًا في طريقة تفكير الطرفين؛ فبينما أرادت أوروبا إجاباتٍ عاجلةً حول مخاوفها الاقتصادية والأمنية، بدت بكين وكأنها تقول: "الوقت يعمل لصالحنا، ولسنا في عجلةٍ من أمرنا".
ويرى تقريرٌ لمجلة "ذا دبلومات" أن أوروبا صعّدت منذ أشهر، نبرتها تجاه الصين، وفتحت ملفات التحقيق في دعم السيارات الكهربائية الصينية، والألواح الشمسية، ومجالاتٍ أخرى حساسة تمس مستقبل صناعاتها.
في المقابل، اختارت بكين لهجةً هادئة، امتنعت عن الردِّ المباشر أو فرض عقوبات، وقدمت نفسها كشريكٍ مستعد للحوار والتعاون، وعندما جاء موعد القمة في بكين أواخر يوليو، كانت الآمال معقودةً على حدوث اختراقٍ في الملفات الشائكة، لكن ما حدث كان العكس تمامًا؛ إذ انتهى الاجتماع بلا نتائج تذكر، واقتصر البيان الختامي على عباراتٍ إنشائية عن التعاون المناخي.
ترى المجلة أن هذا الفشل لم يُصِب بكين بالإحباط، بل على العكس، بدا وكأن القيادة الصينية أرادت توجيه رسالةٍ مفادها أنها لا ترى في القمة ساحة تفاوضٍ حاسمة؛ لأن الصين تُدرك أن الاتحاد الأوروبي كتلةٌ معقدة، ومواقفه الداخلية كثيرًا ما تتناقض بين برلين وباريس وروما وبروكسل.
لذلك تُراهن بكين على لعبة الصبر الطويل والانتظار، والمراهنة على أن الانقسامات الأوروبية ستجعل الموقف الموحد هشًا بمرور الوقت، لتفتح مجالًا للمفاوضات الفردية بدلًا عن الصدام الجماعي.
وفي السياق ذاته يطالب الأوروبيون بتقليص "التبعية المزدوجة" لكلٍّ من الولايات المتحدة والصين، لكنهم في الوقت نفسه عاجزون عن التخلي عن الأسواق الصينية التي باتت أساسيةً في مجالاتٍ مثل السيارات الكهربائية والطاقة المتجددة.
وهنا تكمن المفارقة؛ إذ بينما يرفع الاتحاد شعارات "التوازن" و"إزالة المخاطر" يُواصل التجار والمستثمرون الأوروبيون زيادة انخراطهم في السوق الصينية، وهو ما يجعل بروكسل في مأزقٍ بين الخطاب السياسي والواقع الاقتصادي.
ويرى خبراء أن رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين ورئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا حاولا خلال القمة الضغط على الرئيس الصيني شي جينبينغ لفتح صفحةٍ جديدة، لكن بكين لم تُقدم سوى وعودٍ عامة، ولم يكن هذا الموقف ناتجًا عن ضعفٍ أو ارتباك، بل عن ثقةٍ عميقة بأن أوروبا نفسها ليست مستعدة لرصف الجسور.
فرنسا مثلًا، تتحدث عن "الاستقلالية الاستراتيجية"، بينما تعتمد شركاتها على السوق الصينية للحفاظ على تنافسيتها، في حين لا يمكن لألمانيا التي تقود صناعتُها السيارات الأوروبية، ببساطة تجاهل المستهلك الصيني، أما دول جنوب وشرق أوروبا، فهي ترى في الصين شريكًا اقتصاديًا لا غنى عنه في مشاريع البنية التحتية، وهذا التباين يجعل أيَّ موقفٍ أوروبي موحَّد أقرب إلى الشعار منه إلى الواقع، وهو ما تستغلُّه بكين بذكاء.
وفي هذا السياق يعتقد مُراقبون أن السياسة الصينية ليست مجرد صراع أرقامٍ واتفاقيات، بل هي رهانٌ على حياة الناس وتوجهاتهم؛ فالصين تعلم أن المواطن الأوروبي العادي يُريد طاقةً نظيفة ورخيصة، وسياراتٍ أقل تكلفة، واستثمارات تعزز الوظائف المحلية، وهذه كلها مجالات تملك فيها الصين اليد العليا، لذا فهي تراهن على أن ضغوط الشارع الأوروبي بمرور الوقت ستتغلب على الخطاب السياسي المتشدد في بروكسل.
حتى في ملفات حساسة مثل تصدير المعادن النادرة أو دعم قطاع السيارات الكهربائية، بحسب مطلعين، فإن بكين تُظهر مرونةً محسوبة؛ فهي لا تسعى إلى إذلال أوروبا أو دفعها إلى الزاوية، بل إلى إبقاء قنوات الاعتماد المتبادل مفتوحة بما يكفي لجعل أي مواجهة اقتصادية شاملة شبه مستحيلة.
وتورد المجلة في تقريرها أن بكين عندما ألغت اليوم الثاني من القمة بعد أن لمست تعنتًا أوروبيًا، كان ذلك بمثابة إعلانٍ غير مباشر: "لسنا في حاجةٍ لهذا الحوار إن لم يكُن على أسس واقعية"؛ إذ بالنسبة للصين، لم تكن القمة ساحة خاسرة، بل خطوة في استراتيجية أوسع عنوانها "إدارة العلاقة مع أوروبا دون تقديم تنازلات جوهرية".
وتُسلِّط المجلة في تقريرها الضوء على أن فشل القمة لم يكن إخفاقًا دبلوماسيًا كما اعتبره بعض الأوروبيين، بل كان انعكاسًا لاستراتيجيةٍ صينية هادئة تراهن على الزمن، وعلى هشاشة الموقف الأوروبي الموحد، وبينما ينشغل الساسة في بروكسل بالتحذيرات والتصريحات، تراهن بكين على أن الاقتصاد، وحاجات الشعوب، ستفرض معادلةً مختلفة في النهاية.