كشف تقرير حديث أن "محكمة الساحل الجنائية وحقوق الإنسان" التي اقترحتها دول "تحالف الساحل"، بعد الانسحاب من "نظام روما الأساسي" للمحكمة الجنائية الدولية، ما تزال فكرة معلّقة أكثر منها مؤسسة قائمة، وسط عقبات مالية وقانونية واستقلالية تحد من مصداقيتها.
ورغم تقديم المحكمة باعتبارها بديلًا "سياديًا" للعدالة الدولية، فإنها حتى الآن تعكس طموحًا سياسيًا أكبر من قدرتها الفعلية على إيجاد الحلول بدلًا عن المحكمة الجنائية الدولية.
وبحسب "جون أفريك"، فإن إعلان كل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر عن المحكمة جاء في سياق قطيعة سياسية مع المحكمة الجنائية الدولية، التي تتهمها قيادات دول "تحالف الساحل" بالخضوع للنفوذ الغربي والانحياز ضد جيوشها.
ويرى الخبراء أن هذا الانسحاب لم يكن مجرد خطوة قانونية، بل جزء من خطاب أوسع يسعى إلى تكريس سردية مناهضة للإمبريالية والهيمنة الخارجية، وتقديم العدالة الدولية بوصفها أداة ضغط سياسي أكثر منها مؤسسة محايدة.
لكن هذا المسار يطرح تناقضات واضحة؛ فمالي كانت من أوائل الدول الإفريقية التي لجأت طوعًا إلى المحكمة الجنائية الدولية عام 2012، وأسهمت في إدانات بارزة بحق قيادات من جماعات متطرفة ارتكبت جرائم جسيمة، وفي الوقت نفسه، ما تزال شخصيات مطلوبة دوليًا تنشط داخل المنطقة؛ ما يعكس محدودية العدالة الجنائية الدولية في السياق الساحلي، لكنه لا يبرر بالضرورة القطيعة معها.
ويعتقد مراقبون أن الانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية لا يعني عمليًا نهاية الملاحقات القضائية؛ فالقضايا المفتوحة ستستمر إلى أن يصبح الانسحاب نافذًا، كما أن مجلس الأمن الدولي يظل قادرًا على إحالة ملفات جديدة، وهو ما يحد من فعالية خيار الانفصال القانوني ويُبقي دول الساحل ضمن دائرة المساءلة الدولية، ولو بآليات مختلفة.
أما "محكمة الساحل الجنائية" نفسها، فتواجه عقبات جوهرية قبل أن تتحول إلى بديل موثوق، ومن أبرز هذه العقبات نقص الموارد المالية، وغياب الضمانات المؤسسية لاستقلال النيابة العامة والقضاة؛ فعملية إنشاء محكمة جنائية تتطلب جهاز ادعاء يتمتع بحماية قانونية واستقلال فعلي، وهو أمر يصعب تحقيقه في ظل واقع قضائي يخضع فيه القضاء لتأثير مباشر من السلطات الحاكمة في الدول الثلاث.
وفي هذا السياق، يرى المحللون أن المحكمة تواجه مشكلة العزلة الإقليمية والدولية؛ فالعدالة الجنائية بطبيعتها عابرة للحدود، وتعتمد على تعاون الدول في تسليم المتهمين وتنفيذ الأحكام، ومن دون هذا التعاون، تصبح أي محكمة، مهما بلغ طموحها، محدودة التأثير ومهددة بالفشل.
ويعتقد البعض أن "محكمة الساحل الجنائية" تبدو اليوم مشروعًا سياسيًا يعكس رغبة قوية في إعادة صياغة العلاقة مع العدالة الدولية أكثر من كونها بديلًا قانونيًا قادرًا على ملء الفراغ الذي يخلّفه الانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية، وبين الطموح المعلن والواقع المؤسسي، تظل مصداقية المحكمة الجديدة محل شك كبير.