فيما تترقب العواصم الإقليمية والدولية مؤشرات على تهدئة مرتقبة للصراع الأوكراني، تتجه الأنظار إلى أنقرة التي تتحول إلى ساحة اختبار جديد للدبلوماسية، حيث تحتضن محادثات بين روسيا وأوكرانيا لبحث سبل تأمين الملاحة في البحر الأسود، في خطوة تعكس مؤشرات على تهدئة محتملة في ظل الحديث عن وقف إطلاق النار.
وتأتي هذه اللقاءات برعاية تركية ضمن منتدى دبلوماسي دعت إليه وزارة الدفاع، وسط مشاركة إقليمية ودولية، ما يبرز أهمية الحفاظ على انسياب الإمدادات عبر البحر الأسود كأولوية تتجاوز ساحة المواجهة العسكرية.
ويرى الخبراء أن هذه المباحثات تحمل دلالات اقتصادية واستراتيجية واضحة، خاصة في ظل تمسك موسكو بربط سلامة الملاحة برفع العقوبات عن قطاعها الزراعي وإعادة دمج مصارفها في النظام المالي العالمي، بينما تسعى تركيا إلى استثمار هذه الوساطة لتعزيز موقعها الإقليمي وحماية استثماراتها في مشاريع الطاقة البحرية القريبة من شبه جزيرة القرم.
ويرجّح محللون أن اللقاءات، سواء أُعلنت نتائجها أو بقيت طي السرية، قد تكون خطوة تمهيدية نحو اتفاق أوسع، يوازن بين مصالح موسكو الاقتصادية وضمانات أمنية لكييف، في ظل ضغوط إقليمية ودولية متزايدة لدفع الطرفين نحو حلول توقف التصعيد العسكري وتحافظ على استقرار خطوط الملاحة البحرية الحيوية.
منتدى دبلوماسي وسلامة الإبحار
وقال آصف ملحم، مدير مركز «JSM» للدراسات، إن المحادثات بين موسكو وكييف بشأن أمن الملاحة في البحر الأسود جاءت استجابة لدعوة من وزارة الدفاع التركية، في إطار منتدى دبلوماسي يستهدف ضمان سلامة الإبحار في المنطقة، وقد وُجّهت الدعوات لكل من روسيا وأوكرانيا، إلى جانب عدد من الدول الأخرى.
وأوضح ملحم، لـ"إرم نيوز"، أن وسائل الإعلام التركية تحدثت عن احتمال عقد لقاءات بين ممثلين عسكريين روس وأوكرانيين، خاصة أن أنقرة عرضت استضافة هذه المحادثات في مقر القوات البحرية التركية بالعاصمة.
ولفت إلى أن تركيا تحاول إعادة تفعيل دورها كوسيط في الأزمة، كما فعلت سابقًا خلال مفاوضات مبادرة البحر الأسود للحبوب، والتي استفادت منها بالحصول على شحنات حبوب أوكرانية بأسعار مخفضة وصلت إلى نحو 26%.
وأوضح مدير مركز «JSM» للدراسات أن موسكو تربط مسألة تأمين الملاحة في البحر الأسود بإلغاء العقوبات المفروضة على صادراتها الزراعية ومنتجات الأسمدة والأسماك، إضافة إلى مطالبتها بإعادة ربط "المصرف الزراعي الروسي" بنظام التحويلات البنكية الدولي "سويفت".
وأشار د. آصف ملحم إلى أن السرية قد تظل تسيطر على هذه المفاوضات، خاصة مع استمرار نفي الأطراف لأي لقاء رسمي، رغم تواجد الوفدين الروسي والأوكراني في المنتدى ذاته، ولم يستبعد أن تنجح تركيا في ترتيب لقاءات مباشرة أو غير مباشرة بين الجانبين، سواء عبر محادثات سرية أو تبادل رسائل خلف الكواليس.
واختتم ملحم تصريحاته بالتأكيد على أن المنتدى الدبلوماسي المعني بسلامة الملاحة في البحر الأسود يحظى باهتمام إقليمي ودولي واسع، خاصة مع دخول تركيا ورومانيا بالفعل في استثمارات كبرى لاستغلال حقلي الغاز "ساكاريا" و"نيبتون ديب" القريبين من شبه جزيرة القرم، مما يعزز الحاجة إلى ضمان أمن الملاحة وتحييد المنطقة عن التوترات العسكرية.
من جانبه، قال عماد أبو الرب، رئيس المركز الأوكراني للتواصل والحوار، إن المباحثات المرتقبة في أنقرة تمثل خطوة بالغة الأهمية، نظرًا لارتباطها المباشر بأمن الملاحة البحرية، وهو ما ينعكس على استقرار الأمن الغذائي العالمي، بعيدًا عن الحسابات العسكرية البحتة.
مصير اتفاقية الحبوب
وأضاف أبو الرب، في تصريح لـ"إرم نيوز"، أن ما تم التوصل إليه سابقًا في إطار مبادرة الحبوب بوساطة تركية لا يزال ساريًا، ومن المرجح أن يشكل الأساس لأي تفاهمات جديدة خلال المرحلة المقبلة.
وشدد على أن من مصلحة روسيا استمرار انسياب الإمدادات التجارية، خاصة في ظل مخاوف من مزيد من العزلة الدولية في حال تعطيل الصادرات، وهو ما قد يضر بشبكة علاقاتها الاقتصادية والتجارية حول العالم.
وأشار إلى أن روسيا تدرك أهمية استمرار تدفق صادراتها من الحبوب والأعلاف والزيوت والمواد الغذائية والطاقة، معتبرًا أن أي تعثّر في هذا المسار سيترك انعكاسات سلبية على الساحة الدولية.
وتوقع رئيس المركز الأوكراني للتواصل والحوار أن تنجح هذه الجهود في التوصل إلى اتفاق، خاصة في ظل الأضرار التي لحقت بروسيا نفسها جراء الأوضاع الراهنة، مؤكدًا أن المصالح المشتركة بين الأطراف المعنية ستدفع في اتجاه تحقيق تفاهم يضمن سلامة الملاحة في البحر الأسود.