برز الأرز، وهو الغذاء الأساسي في اليابان، كأحد التحديات السياسية البارزة، وذلك بينما تستعد البلاد لاستقبال رئيس وزراء جديد.
وأصبح الأرز اليوم رمزًا لسوء إدارة السياسات، ومصدرًا للقلق الاقتصادي، وعنوانًا للهشاشة السياسية التي يعاني منها الحزب الليبرالي الديمقراطي الحاكم (LDP) في اليابان.
وبحسب تقرير نشرته صحيفة "واشنطن بوست"، يأتي هذا التحول في القيادة عقب استقالة رئيس الوزراء شيغيرو إيشيبا في سبتمبر/أيلول، إثر هزيمة الحزب في الانتخابات.
ورغم تعدد أسباب الخسارة، إلا أن أزمة أسعار وإمدادات الأرز كانت العامل الأوضح الذي أثار غضب الشارع.
الارتفاع الحاد في أسعار الأرز أعاد تشكيل الحياة اليومية في اليابان، فقد تضاعفت الأسعار العام الماضي، ما دفع الأسر إلى شد الأحزمة، والمطاعم إلى تغيير قوائمها، بل وصل الأمر إلى فرض غرامات على الزبائن الذين لا ينهون وجبات الأرز.
وتداخلت عوامل عدة في تفاقم الأزمة: موسم حصاد ضعيف، زيادة أعداد السياح، وعمليات شراء بدافع الذعر بسبب شائعات عن زلزال وشيك، وهو ما أدى إلى اختفاء الأرز من المتاجر واضطرت الحكومة إلى السحب من احتياطيات الطوارئ، في خطوة تشبه اللجوء الأمريكي إلى الاحتياطي الاستراتيجي من النفط.
وبحسب التقرير، كشف هذا التقلب عن ثغرات عميقة في سياسة الأرز اليابانية التي تديرها السلطات المركزية والمحلية بالتعاون مع الاتحادات الزراعية.
وعلى مدى عقود، حددت الجهات المنظمة سقفًا لإنتاج الأرز عبر إرشادات تهدف إلى منع فائض المعروض والحفاظ على مصادر دخل المزارعين.
لكن عندما ضربت الأزمة عام 2024، وجد العديد من المزارعين أنفسهم مضطرين لترك مساحات من أراضيهم بلا زراعة بسبب تلك القيود. وأصبح التباين بين السياسات والواقع في السوق رمزًا لفشل حكومي صارخ.
ويواجه القائد الجديد للحزب الليبرالي الديمقراطي، والمرشح الأقرب لتولي رئاسة الوزراء، معضلة سياسية حساسة.
وتعهد وزير الزراعة شينجيرو كويزومي، أحد أبرز المرشحين، بإصلاح تنظيم سوق الأرز، وحظي بمزيد من الزخم بعد استقالة سلفه على خلفية تصريحات اعتُبرت متعالية تجاه أزمة الأسعار.
وفي الريف الياباني، حيث يبقى الأرز عماد الاقتصاد المحلي، يشكل المزارعون قاعدة انتخابية صلبة للحزب، وبفضل التوزيع الانتخابي، تتمتع أصواتهم بثقل يفوق سكان المدن.
أما الاتحاد التعاوني الزراعي الوطني (JA) فيمتلك قدرة كبيرة على حشد تلك الأصوات.
وفي المقابل، اعتاد الحزب أن يوفر لهم الحماية من المنافسة الخارجية ويضمن أسعارًا مرتفعة عبر القيود على الإنتاج.
غير أن هذا التوازن التقليدي يواجه ضغوطًا غير مسبوقة، فارتفاع تكاليف المعيشة وضغوط التجارة الدولية والتراجع الديمغرافي تعيد صياغة معادلة السياسة الزراعية.
وفي أغسطس/آب الماضي، أعلنت الحكومة نيتها مراجعة النظام القائم منذ عقود لتقييد إنتاج الأرز.
وأكدت أنها ستشجع على زيادة المحاصيل، مع توجيه الفائض نحو التصدير كآلية لتأمين السوق المحلي في أوقات الأزمات.
ويمثل ذلك ابتعادًا جزئيًا عن التقديرات السابقة للطلب التي كانت بمثابة سقف للإنتاج.
ومع ذلك، ما زالت التفاصيل غامضة والشكوك واسعة، فمحاولات الإصلاح السابقة اصطدمت بمقاومة عنيفة من الاتحاد الزراعي (JA)، الذي يخشى أن تؤدي الأسعار المنخفضة إلى خروج المزارعين الصغار من السوق.
إلى جانب الأسعار، يواجه قطاع الأرز تراجعًا بنيويًا، فالمزارعون يتقدمون في العمر بسرعة، وكثير منهم يتقاعدون دون وجود من يخلفهم.
وتُرك أكثر من مليون فدان من الأراضي الزراعية بلا استغلال، في انعكاس لانتقال الأجيال الشابة إلى المدن بحثًا عن وظائف أكثر ربحًا.
في المقابل، تبرز محاولات محدودة للتحديث، حيث يعتمد بعض المزارعين الشباب على الطائرات المسيرة والتسويق عبر الإنترنت والبيع المباشر للمطاعم، لكن هذه النماذج لا تزال استثناءات محدودة ضمن قطاع يعتمد إلى حد كبير على الدعم الحكومي والتوجيه التنظيمي.
ويشير خبراء إلى أن بقاء الحزب الحاكم في السلطة منذ خمسينيات القرن الماضي ارتبط بعلاقة تبادلية: يحمي الحزب المزارعين بالدعم والقيود على الاستيراد، بينما يحشد الاتحاد الزراعي أصوات الريف لصالحه.
لكن هذا العقد الاجتماعي بدأ يتصدع، فالمستهلكون لم يعودوا على استعداد لتحمل ارتفاع الأسعار من أجل حماية المزارعين الصغار.
ويؤكد اقتصاديون أن إبقاء الأسعار مرتفعة بشكل مصطنع يشوه السوق ويمنع الاندماج الزراعي الأكثر كفاءة.
وفي المقابل، فإن تفكيك هذه الحماية بشكل سريع قد يطيح بالمزارعين الجزئيين الذين يعتمدون على دخل الأرز كدخل ثانوي، وهو إرث من مرحلة ما بعد الحرب.
وإذا تحررت السوق بشكل مفرط، قد تهبط الأسعار وينفر المزارعون، ما يضعف القاعدة الريفية للحزب. أما إذا تعثرت الإصلاحات، فقد ينقلب المستهلكون على الحزب، مما يفاقم حالة عدم الاستقرار السياسي.