في خطوة وصفها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بـ"التاريخية"، اختبرت موسكو منظومة صواريخها النووية الحديثة، المعروفة بالثالوث النووي، والمكونة من "بوريفيستنيك، بوسيدون، ويارس".
ويأتي هذا الاختبار في إطار جهود موسكو لتعزيز الردع الاستراتيجي في مواجهة التحديات الغربية وحرب أوكرانيا، وسط استعدادات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لإجراء تجارب نووية جديدة.
البداية، كانت بعد إعلان الرئيس الروسي في 26 أكتوبر/تشرين الأول الماضي نجاح اختبار صاروخ "بوريفيستنيك"، الذي قطع مسافة 14 ألف كيلومتر، والتحليق نحو 15 ساعة.
ويعتبر بوريفيستنيك أول صاروخ كروز في العالم يعمل بالطاقة النووية عبر مفاعل صغير يولد حرارة لدفع الهواء، بالإضافة إلى أنه مصمم للطيران على ارتفاعات منخفضة لمسافات طويلة وحمل رؤوس نووية.
وفي 29 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أعلن بوتين نجاح اختبار طوربيد "بوسيدون"، المصمم للغوص حتى عمق يزيد على كيلومتر واحد، بسرعة 60 إلى 70 عقدة.
ويبلغ طول الطوربيد أكثر من 20 مترًا، وقطره نحو مترين، ويعمل بمفاعل نووي صغير يمنحه مدى عمليًا غير محدود.
كما سبق أن أعلنت روسيا عن صاروخ "يارس" (RS-24)، الذي يُعد العمود الفقري للقدرة النووية الروسية، ويبلغ طوله 22.5 متر، ووزنه 49 ألف كغم، بمدى يتراوح بين 2000 إلى 10500 كم، ويحمل ما يصل إلى 10 رؤوس نووية مستقلة التوجيه، كل منها بقوة 300 كيلو طن.
وأجريت مناورات نووية استراتيجية روسية في 22 أكتوبر/تشرين الأول، شملت إطلاق صاروخ يارس من قاعدة بليسيتسك، وصاروخ سينيفا من غواصة بريانسك، إضافة إلى صواريخ مجنحة من طائرات "تو-95".
وشملت الاختبارات قياس الأداء على مدى المسافات الطويلة، والدقة، وقدرات المناورة والتجاوز الدفاعي، بما يعكس جهود موسكو لتعزيز الردع الاستراتيجي أمام الغرب.
ويتميز الصاروخ بالسرعة العالية عند إعادة الدخول، والتي تتجاوز 20 ماخ، ودقة متميزة مع خطأ محتمل لا يتجاوز 150 مترًا، إضافة إلى قدرة المناورة ونشر الطعوم المضادة للصواريخ الدفاعية.
وتمثل هذه الأسلحة محاولة لإعادة التوازن الاستراتيجي مع الغرب، إذ تجمع بين المدى غير المحدود لكل من "بوريفيستنيك" و"بوسيدون" وقدرة "يارس"، على اختراق الدفاعات، ما يزيد الضغوط على أنظمة الدفاع الصاروخي الغربية ويجعل أي مواجهة مباشرة مع الثالوث النووي الروسي أمرًا معقدًا للغاية.
وبهذا السياق، قال الخبير العسكري، العميد نضال زهوي، إن منظومة الصواريخ الروسية الحديثة التي تضم "بوريفستنيك، بوسيدون، ويارس"، تمثل نقلة نوعية في الردع الاستراتيجي، مشيرًا إلى أن هذه المنظومة تُسرّع من ترسيخ التفوق الروسي في مواجهة حلف شمال الأطلسي وأمريكا، خاصة في ظل حرب أوكرانيا وتصاعد حدة التوترات النووية.
وكشف زهوي، في تصريح لـ"إرم نيوز"، أن هذه الأسلحة ليست مخصصة للحروب اليومية التقليدية، بل تشكل أداة ردع بالغة التأثير على المستوى الاستراتيجي، قادرة على إعادة رسم موازين القوى النووية في العالم.
وأكد أن "بوريفيستنيك" صاروخ نووي مجنح يعمل بمحرك نووي، ويتمتع بمدى "غير محدود" تقريبًا وبسرعة دون سرعة الصوت، لكنه قادر على المناورة والتخفي.
وأضاف زهوي أن الصاروخ يشبه في عمله صاروخ "توماهوك" الأمريكي، وهو مصمم للطيران على مسارات غير متوقعة لضرب أهداف عميقة داخل عمق العدو، ما يجعله تهديدًا استراتيجيًا وليس أداة للقتال التقليدي اليومي.
أما "بوسيدون"، فهو منظومة تحت الماء بمدى نحو 11 ألف كيلومتر، قادر على الغوص حتى عمق 1000 متر وبسرعة تقارب 185 كم/ساعة، بحسب زهوي.
وأشار إلى أن هذا الصاروخ قادر على تجاوز جميع أنظمة الدفاع البحري المضادة للتوربينات، ويحمل رأسًا نوويًا حراريًا تصل قدرته إلى نحو 100 ميغا طن، ويُطلق من غواصات لاستهداف المدن الساحلية وحاملات الطائرات، وقد يسبب "تسونامي مشع" يدمر الموانئ والبُنى التحتية الساحلية، ما يجعله أداة ردع نووية بحرية غير مسبوقة.
وأوضح زهوي أن صاروخ "يارس" يمتاز بمدى يصل إلى نحو 19 ألف كيلومتر وسرعة تفوق سرعة الصوت، وهو صاروخ فرط صوتي يشكل العمود الفقري لتوازن الردع النووي الروسي، ويحمل أنواعًا متعددة من الرؤوس النووية.
ولفت إلى أنه جاء قبل "بوريفيستنيك" و"بوسيدون" في التسلسل الزمني، لكنه يُكمل معهما منظومة ثلاثية الأبعاد "برًا، بحرًا، جوًّا"، تعزز الردع الاستراتيجي، وتصعب إمكانية تفكيك القدرة النووية الروسية.
وأشار الخبير العسكري إلى أن تأثير هذه المنظومة لا يقتصر على الحروب التقليدية، بل يشمل إحباط نظرية الضربة الانفرادية الأمريكية، ومنع أي تفكك للقدرة الردعية أمام قوة نووية شاسعة مثل روسيا.
وأكد أن الثالوث الصاروخي قادر على إحداث كارثة لأي دولة تُستهدف به، ويرسل رسالة واضحة لدول أوروبا الشرقية مفادها بأن موسكو قد ترد برد نووي مرن وغير تقليدي، كما أنه يشكل ردًا عمليًا على مشاريع تحديث الترسانة النووية الأمريكية واختباراتها، خصوصًا في ظل استعدادات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لإجراء تجارب نووية جديدة.
من جانبه، قال الخبير العسكري والاستراتيجي، العميد ناجي ملاعب، إن صاروخ "بوريفيستنيك" هو صاروخ كروز استراتيجي يعمل بالدفع النووي، ويستخدم لأول مرة محركا نوويا يمنحه مدى غير محدود، حيث يمكنه التحليق لآلاف الكيلومترات دون الحاجة إلى الوقود التقليدي بعد مرحلة الإطلاق، ويولد الطاقة اللازمة للتحليق لأيام متواصلة.
وأضاف ملاعب، في تصريح لـ"إرم نيوز"، أن الصاروخ يتميز بقدرته على الطيران على ارتفاعات منخفضة لتفادي الرادارات، وتغيير مساره أثناء الرحلة لتجنب الدفاعات الجوية، إضافةً إلى إمكانية حمل رؤوس نووية صغيرة أو متوسطة، ما يجعل اعتراضه صعب جدًا.
وأوضح أن أهمية الصاروخ تكمن في ضمان قدرة الرد النووي الروسي حتى عند تدمير منصات الإطلاق التقليدية، لافتًا إلى أن "بوريفيستنيك" يُعد جزءًا من مفهوم "الضربة الثانية"، أي القدرة على الرد بعد استهداف القدرات النووية الروسية.
وأكد ملاعب أن "بوسيدون" و"يارس" أقل تطورًا نسبيًا من "بوريفيستنيك"، لكن السؤال الأهم يبقى حول تأثير هذه المنظومات على توازن القوى مع حلف الناتو، خصوصًا أن الناتو لم يُعلن عن استخدام مفاعلات نووية في صواريخه بعد، ما يجعل التطور الروسي خطوة مهمة في سباق التسليح النووي.
ولفت إلى أن التحرك الروسي دفع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى زيادة إنتاج الصواريخ النووية وإجراء التجارب عليها، مشددًا على أن الحديث عن توازن القوى ما زال مبكرًا، نظرًا لأن "بوريفيستنيك" لم يجرب عمليًا بعد.
وقال ملاعب إن بعض الدول، مثل إيران، تسعى لتطوير قدرات نووية، لكنها لم تُجرِ تجارب عملية بعد، وما زالت في مرحلة الدراسات والتطوير لمعرفة مدى ملاءمة الصواريخ لحمل الرؤوس النووية، وهو ما قد يدفع الناتو لاحقًا لتطوير برامج مماثلة تعتمد على الصواريخ العاملة بالطاقة النووية.