في خطوةٍ بدت للوهلة الأولى رسالة دعم تقليدية، قرَّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني فريدريش ميرتس، ورئيس الوزراء البولندي دونالد توسك زيارة مولدافيا للمشاركة في احتفالات استقلالها يوم الأربعاء، لكن التوقيت والرمزية يشيان برسائل أبعد من مجرد الاحتفال؛ فالزيارة التي تأتي قبل شهرٍ واحد فقط من الانتخابات البرلمانية المقررة في 28 سبتمبر، تتحول إلى اختبارٍ حقيقي للتوازنات بين أوروبا، روسيا، وأوكرانيا.
في السطح، تؤكِّد كلٌّ من باريس وبرلين ووارسو أن الزيارة تهدف لـ“إعادة تأكيد دعمها لأمن مولدافيا وسيادتها ومسارها الأوروبي”، لكن خلف هذه الصياغات الدبلوماسية المعتادة، يكمن إدراك أوروبي متزايد بأن مولدافيا ليست مجرد دولة صغيرة على أطراف الاتحاد، بل ورقة ضغط جيوسياسية يمكن أن تُستخدم في أكثر من اتجاه.
وبحسب صحيفة "بوليتيكو"، فإن أولى الرسائل موجهةٌ إلى موسكو، التي لا تخفي محاولاتها للتأثير على الانتخابات المولدافية من خلال حملات التضليل واستهداف الجاليات بالخارج، وهو ما دفع كيشيناو مرارًا إلى التحذير من “تدخل غير مسبوق”، ولذلك فإن وجود ثلاثةٍ من أكبر زعماء أوروبا في قلب العاصمة المولدافية هو بمثابة تحدٍ صريح للكرملين، مفاده "لن نسمح لمولدافيا أن تسقط في دائرة نفوذكم بسهولة".
لكن الرسالة الثانية قد تكون أكثر حساسية، وهي موجهةٌ إلى كييف؛ فالاتحاد الأوروبي يدرس فتح أول “عنقود تفاوضي” مع مولدافيا الشهر المقبل، وهي خطوة قانونية على طريق الانضمام، لكن هذه الخطوة، رغم رمزيتها، قد تُثير غضب أوكرانيا التي ترى ملفها عالقًا بفعل الفيتو المجري، وهنا يصبح دعم مولدافيا أداة ضغط غير مباشرة على كييف، في إشارة إلى أن بروكسل قد تُسرّع مع من يستجيب أكثر ويقلل من الأزمات الداخلية، حتى لو كانت أوكرانيا هي الدولة الأكبر والأكثر رمزية في مواجهة روسيا.
في العام الماضي، فازت الرئيسة مايا ساندو بولاية جديدة وسط اتهامات روسية بالتدخل في صناديق الاقتراع، كما حُسم استفتاء الانضمام للاتحاد الأوروبي بصعوبة بالغة، تلك التجربة عززت قناعة الأوروبيين بأن الحسم لن يكون فقط عسكريًا أو اقتصاديًا، بل أيضًا عبر صناديق الاقتراع التي تحاول موسكو التأثير عليها.
التوقيت إذن ليس صدفة؛ فأوروبا تعلم أن الانتخابات المقبلة في مولدافيا قد تحدد موقع البلاد لسنوات، وأن الانحراف نحو الشرق قد يضعف الجبهة الأوروبية بأكملها، وفي المقابل، فإن إظهار مرونة أكبر مع مولدافيا قد يفتح بابًا جديدًا من التوتر مع كييف، التي ترى نفسها الأحق بدفعة سياسية من الاتحاد.
في النهاية، مولدافيا الصغيرة تجد نفسها في قلب لعبة كبرى، حيث تُعامل كاختبارٍ مزدوج لمدى قدرة أوروبا على ردع موسكو، واختبار لقدرتها على ضبط إيقاع وعودها مع أوكرانيا، وما بين ضغوط الشرق وتطلعات الغرب، تبقى صناديق الاقتراع في كيشيناو الساحة التي قد تحدد مسار المنطقة بأسرها.