logo
العالم

من الناتو إلى الهوية.. لماذا تخشى أوروبا من استراتيجية ترامب الأمنية؟

ترامب خلال مشاركته في قمة لحلف الناتوالمصدر: رويترز

يؤكد مراقبون للشأن السياسي الأمريكي أن "الخطاب" الذي تم توجيهه لأوروبا عبر الاستراتيجية الأمنية الأمريكية الجديدة، غير مسبوق شكلًا ومضمونًا، وينمّ عن أن العلاقة بين واشنطن وبروكسل شهدت انقلابًا جذريًا، قد يصعب استدراكه مع الزمن. 

ويوم السادس من الشهر الجاري، أصدرت إدارة الرئيس دونالد ترامب وثيقتها الجديدة حول استراتيجية الأمن القومي، ورغم عدم تجاوزها الأربعين صفحة، إلا أنها كانت مملوءة بالمعاني الجيوسياسية والدلالات الاستراتيجية. 

تحول غير مسبوق

ووفقًا للمراقبين، فإن الوثيقة تُمثل تحولًا جذريًا في تصور الولايات المتحدة الأمريكية للعالم، وتُجسد انعطافًا عن كافة الرؤى الأمنية السابقة، بما فيها رؤية الرئيس ترامب ذاته في العام 2017، والتي حملت عنوان "أمريكا أولًا". 

فلئن كانت رؤية "أمريكا أولًا" لعام 2017، بمثابة المقدمات والإرهاصات البكر لفلسفة ترامب، فإن رؤية العام 2025 جاءت لتكرسها على أرض الواقع بخطوطها العريضة، وأفكارها الجملية والجزئية أيضًا، وبخطاب سياسي مباشر لا يحتمل التأويل. 

ويتوافق المراقبون على أن الوثيقة ليست مجرد إعادة ترتيب لأولويات واشنطن، ولا مراجعة نقدية جزئية للرؤى الأمنية السابقة، ولا ورقات سياسية لتكريس الفلسفة الأمريكية المعروفة على أرض الواقع، إنما هي إعلان صريح عن تحول جذري في تمثل الدور الأمريكي، وفي تصور الحلفاء التقليديين، وفي هندسة العالم.

وفككت الوثيقة الرؤية الأمنية وفق الفضاءات الجغرافية، ووفق طبيعة اللاعبين الإقليميين والدوليين، وحسب الدور التقليدي لواشنطن والدور المفترض حسب مقتضيات التصور الأمني الجديد.  

أخبار ذات علاقة

لقاء سابق بين ترامب وبوتين

تعيد رسم التحالفات.. استراتيجية ترامب الجديدة تفتح الباب لـ"صفقة كبرى" مع موسكو

العالم في وثيقة

وبسطت الوثيقة التصور الأمني الأمريكي الجديد لأفريقيا والصين ومعها تايوان، وللشرق الأوسط، إلا أنها أولت أهمية لافتة لأوروبا، التي يمكن اعتبارها الخيط الناظم لكافة مفاصل الرؤية الأمنية. 

واعتبرت أفريقيا مجالًا طبيعيًا للموارد والطاقة، واعتبرت الصين منافسًا اقتصاديًا شرسًا يتطلب تثويرًا اقتصاديًا أمريكيًا في مستوى الأولويات التي من المفترض أن تتجه نحو المعادن الثمينة والنادرة والتقنيات المتطورة والذكاء الاصطناعي، دون أن يترك لها مجال حسم عسكري في تايوان.

أما الشرق الأوسط، فالوثيقة اعتبرت أنه لم يعد أولوية استراتيجية بفضل اكتساب واشنطن لاكتفائها الذاتي من الموارد الطبيعية النفطية، غير أنه لا يزال يحظى بأهمية بالنظر لأمن إسرائيل، وللملاحة البحرية، وللمشروع النووي الإيراني – الذي فقد الكثير من خطورته بعد حرب الـ12 يومًا- وللتواجد العسكري الأمريكي في تلك المنطقة. 

وفي هذا المفصل بالذات، تؤكد القراءات السياسية والاستراتيجية أن الوثيقةَ لا تحمل جديدًا كبيرًا من حيث التصورات أو الآراء أو السياسات في الأماكن المذكورة آنفًا، وأن المنعرج الاستراتيجي يتجسد أساسًا في الفضاء الأوروبي، وهو الأمر الذي أحدث تخوفًا حقيقيًا لدى القادة الأوروبيين.  

"الرجل الأوروبي المريض"

وتصف الاستراتيجية الأمنية، القارة الأوروبية بـ"القارة التي تعاني شيخوخة ديموغرافية" و"أزمة هوية"، وهو تقريبًا الوصف الذي وصفت به بريطانيا وفرنسا الخلافة العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى. 

وفي تقاطع لافت مع أطروحات اليمين المتطرف الأوروبي، تتحدث الوثيقة عن احتمال "محور حضاري" لأوروبا بسبب سياسات استقبال اللاجئين، وتراكم القيود التنظيمية على الاقتصاد، إلى درجة تتساءل فيه الوثيقة عن طبيعة أوروبا عقب عشرين عامًا فقط من سياسات استقبال المهاجرين واللاجئين. 

ويرصد المراقبون تقاطعًا كبيرًا بين أطروحات الرؤية الأمنية الترامبية، ومقولات اليمين المتطرف الفرنسي، ممثلًا في إريك زيمور، الذي بنى حملته الانتخابية الرئاسية في العام 2022 على فكرة "الاستبدال الكبير". 

هذا التقاطع لا يقف عند الأفكار والتصورات، بل يتجاوزها ليأخذ موقفًا سياسيًا واضحًا وصريحًا من سلوك الأنظمة الأوروبية حيال معارضي سياسات الانفتاح على الهجرة واللجوء. 

إذ تتهم الوثيقة بروكسل بتقييد حرية التعبير، وقمع المعارضات السياسية، وتحديد الأحزاب اليمينية القومية واليمينية الشعبوية، والحيلولة دون ايصال أفكارهم وتطبيق مشاريعهم على أرض الواقع، غير أنها في المقابل تعرب عن تفاؤلها بصعود هذه الأحزاب في أوروبا، الأمر الذي يشير إلى رغبة أمريكية واضحة في تجاوز "بروكسل الكلاسيكية المركزية"، نحو "أوروبا يمينية جديدة" تتوافق معها في قضايا الهجرة.   

وفي تصور صريح، نجد له امتدادًا في السياسات الأمريكية الحالية ضد المهاجرين من أمريكا اللاتينية بصفة خاصة، تعتبر واشنطن أن الهجرة الجماعية باتت تهديدًا عالميًا يجب أن يتوقف، وأن الاتحاد الأوروبي يمثل نموذجًا للفشل في إدارة التغيير الديموغرافي.

أخبار ذات علاقة

ترامب وبوتين

"تتفق مع رؤيتنا".. الكرملين يرحب باستراتيجية أمريكا الأمنية الجديدة

أمريكا لم تعد شرطي العالم 

ولا يقف التصويب الأمريكي ضد أوروبا عند حدود الهوية، بل يتجاوزها نحو قضايا الأمن الجماعي بما تستدعيه من مراجعة لمظلة "الأطلسي"، حيث تنطلق الوثيقة من مُسلمة استراتيجية قوامها أن أمريكا لم تعد "شرطي العالم" الذي ينافح عن مبادئ الديمقراطية والليبرالية في مقابل الاستبداد والسلطوية، بقدر ما أنها دولة تدافع عن مصالحها الاقتصادية والسياسية، وبالتالي فهي لن تكون "فاعلًا متطوعًا" في منظومة الدفاع عن المصالح الأوروبية، ومنظومة تبديد مخاوفهم حيال المخاطر الاستراتيجية، بقدر ما سوف تبرم علاقات مصلحة ثنائية. 

وتدعو الوثيقة الأوروبيين إلى تحمل المسؤولية الرئيسية عن الدفاع عن مصالحهم الاستراتيجية، ورفع الإنفاق إلى مستويات أعلى بكثير مما هو معمول به في حلف شمال الأطلسي.   

وفي هذا السياق، تؤكد الوثيقة أن اللحظة تقتضي تخفيف الانخراط العسكري المباشر في الفضاء الأوروبي، بما في ذلك الاستحقاقات المترتبة عن الوجود في حلف الأطلسي، وهو الذي شككت الوثيقة في جدوى توسعه المستمر، وفي اعتباره تحالفًا يمكن توسيعه بلا سقف جغرافي أو سياسي. 

مراجعات عميقة

وفي تفاعلهم مع هذه الخطة الأمنية الجديدة، أكد المراقبون للشأن الأمريكي، أن الوثيقة تُعبر عن مراجعة عميقة وتاريخية للأدوار الكلاسيكية والتقليدية، وعن تحول بنيوي عميق في مفهوم "الأمن القومي الأمريكي". 

وباتت أمريكا اللاتينية، والجزء الغربي من المعمورة، العمق الاستراتيجي الأساسي والمحوري لواشنطن، وهو عمق يتجاوز المقولات السابقة عن الحديقة الخلفية لواشنطن، نحو مقتضيات ومستلزمات الأمن القومي الأمريكي. 

وقد جسدت التحركات الأمريكية الأخيرة في منطقة الكاريبي وعلى السواحل الشمالية لفنزويلا، والتصعيد الواضح ضد كوبا وكولومبيا وتشيلي، علامات عن الرؤية الأمنية الترامبية لأمريكا اللاتينية كعمق استراتيجي غير قابل للتفاوض. 

كما تؤشر هذه التحركات، إلى سياسات مستقبلية منظورة للتضييق على الفاعلين الروسي والصيني، اللذين وجدا في الحركات اليسارية وفي الأنظمة المناوئة لواشنطن فضاء مواتيًا للتغلغل الناعم، فيما كان يُنعت بـ"الحدائق الخلفية للبيت الأبيض". 

وفي ذات سياق المراجعات، تُمثل الوثيقة تمردًا سياسيًا واضحًا ضد المواثيق الأمنية مع الدول الأوروبية، وعلى رأسها ميثاق حلف الأطلسي، الذي ينص في بنده الخامس على مبدأ الدفاع الجماعي، وأن أي هجوم على عضو هو هجوم على كافة الأعضاء. 

وتعتبر الوثيقة أنه لا يمكن لأوروبا التعويل كثيرًا على الدعم العسكري الأمريكي، أو الاعتماد على التدخل التطوعي للجيش الأمريكي في القضايا الأوروبية، البينية أو الخلافية مع الدول الأخرى، وأن أي طلب للتدخل الأمريكي لابد أن يكون بمقابل مادي. 

أخبار ذات علاقة

استراتجية ترامب الجديدة

استراتيجية الأمن القومي الجديدة..هل تترك أمريكا الشرق الأوسط لـ"التنافس الحر"؟

مخاوف وتحديات

وفي بروكسل، تمت قراءة الوثيقة بمزيج من التخوف والتحدي، فلئن أبدى الزعماء الأوروبيون خشيتهم من الانسحاب الأمريكي المعلن من القضايا الأمنية والعسكرية الأوروبية الأطلسية، بما قد يحمله الأخير من نتائج عسكرية لصالح عدوهم المركزي، والمتمثل في روسيا، فإن دعوات إلى قبول التحدي، والعمل على التعويل على الذات، وقطع الحبل السُري مع واشنطن، بدأت تجد صداها في دوائر اتخاذ القرار الأوروبي. 

وجاءت نبرة الرد الفرنسي والألماني على الوثيقة الأمريكية، عالية، وتجاوزت بدورها حدود ومعالم الخطاب الدبلوماسي المعهود، والمعروف بين بروكسل وواشنطن. 

وإلى حين البت في طبيعة الخيارات الأوروبية حيال الوثيقة الأمنية الأمريكية، يبدو أن هناك فائزين اثنين من هذه الرؤية الأمنية، الفائز الأول يتمثل في موسكو، التي تعتبر أن التململ الأمريكي حيال الفاعل الأوروبي يتقاطع مع رؤيتها، وأن الانسحاب الأمريكي من المكاسرة الروسية-الأوكرانية سيصب بالتأكيد في مصلحتها الاستراتيجية، والتي بدأت بالتكرس في الخرائط الأولى لوقف القتال في أوكرانيا. 

أما الفائز الثاني، فيتمثل في الأحزاب اليمينية القومية والشعبوية، التي وجدت أطروحتها التي كثيرًا ما تنعت بالانعزالية والهامشية والاستبدادية، متكرسة بالمنطق والمنطوق في الرؤية الاستراتيجية لأكبر دولة في العالم، ما يحولها من فضاء الهوامش إلى قلب المركز. 

ولن يكون مفاجئًا أن تكتسح هذه الأحزاب الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في أكثر من عاصمة أوروبية، ولن يكون مفاجئًا أيضًا أن تعيد النقاش الحقيقي والمركزي والمخيف حول نجاعة وأحقية استمرار التكتل الأوروبي. 

logo
تابعونا على
جميع الحقوق محفوظة © 2025 شركة إرم ميديا - Erem Media FZ LLC