في ظل تزايد النفوذ الصيني في نصف الكرة الغربي، تساءلت مجلة "فورين أفيرز" عن الأسباب التي دفعت دول أمريكا اللاتينية إلى الابتعاد عن الولايات المتحدة والانجذاب نحو الصين.
التقرير يشير إلى أن السياسة الخارجية الأمريكية، التي بدأت تتسم بالصرامة والانغلاق خلال ولاية الرئيس دونالد ترامب، كانت نقطة التحول لهذا التحول الاستراتيجي.
وقالت الصحيفة: "في حين لم تحافظ أي قوة عظمى على موقعها المهيمن على المنطقة المجاورة لها كما فعلت الولايات المتحدة خلال معظم القرن العشرين، لكن في العقود الأخيرة، تجاهلت واشنطن جيرانها إلى حد كبير".
ومع إهمال واشنطن لجيرانها في الأمريكيتين، فتحت الفرصة أمام الصين وروسيا لتعزيز حضورهما في المنطقة، مستفيدتين من الفراغ الذي خلفته أمريكا.
وبينما لا تبتعد هذه الدول تمامًا عن واشنطن، فإنها تحوط رهاناتها بذكاء، حيث تقدم الصين استثمارات وشراكات لم تقدمها الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، مما يعكس تحولًا جذريًا في التوازنات الاقتصادية والدبلوماسية في المنطقة.
وأشارت الصحيفة إلى أنه منذ التفاوض على اتفاقية التجارة الحرة مع كندا والمكسيك ومبادرة عسكرية لمساعدة كولومبيا على مكافحة عصابات المخدرات قبل أكثر من 25 عامًا، اقتصرت سياسة الولايات المتحدة في الأمريكيتين في الغالب على إجراءات فاشلة لوقف تدفق المهاجرين والمخدرات عبر الحدود الأمريكية، ما فتح الباب أمام الصين وروسيا لممارسة نفوذ متزايد في نصف الكرة الغربي.
وعلى الرغم من أن النجاحات الأولية؛ مثل انسحاب بنما من مبادرة الحزام والطريق الصينية، ونشر المكسيك 10 آلاف جندي على حدودها لمنع التهريب والهجرة غير الشرعية، تدعم التصور القائل إن ترامب يُرسّخ نفوذ الولايات المتحدة في نصف الكرة الغربي، لكن انتزاع سلسلة من التنازلات من الجيران الأضعف ليس استراتيجية فعّالة على المدى الطويل.
لأن ذلك وفق التقرير، لا يأخذ في الاعتبار الديناميكيات الإقليمية المتغيرة بسرعة والتي تُسرّع الولايات المتحدة وتيرتها دون قصد بسلوكها العدواني.
وتابع أن العديد من دول نصف الكرة الغربي يُحوّط رهاناته بذكاء؛ فلا تُدير هذه الدول ظهرها للولايات المتحدة تمامًا ولا تُغلق أبوابها أمام منافسيها.
وأردف أن "الصين، حققت على وجه الخصوص، اختراقات كبيرة في أمريكا اللاتينية، حيث يُنظر إليها غالبًا كمصدر موثوق لأنواع الاستثمار والمشاركة الدبلوماسية التي لم تعد الولايات المتحدة تُقدّمها باستمرار".
واستطردت المجلة: "على حين قدّم الرئيس ترامب الذي يفاخر في فن إبرام الصفقات، في أمريكا اللاتينية، مطالب كبيرة، بينما لم يُقدّم في المقابل سوى القليل من المنافع، لا يُمكن لتهديدات ترامب وأساليبه الترهيبية أن تُوفّر أساسًا ثابتًا لهيمنة أمريكية طويلة الأمد في المنطقة".
وأشارت إلى أن "واشنطن، منذ نهاية الحرب الباردة، اعتبرت هيمنتها على نصف الكرة الأرضية أمرًا مفروغًا منه، مُركزةً على صراعات الشرق الأوسط، والأمن الأوروبي، والمنافسة الآسيوية، مُقلِّلةً من مشاركتها الجوهرية مع الأمريكيتين".
وتابعت: "أتاح هذا الإهمال فرصًا للصين وروسيا لتعزيز مصالحهما الاستراتيجية مع تلبية احتياجات المنطقة من الاستثمار والشراكة".
وبينما اتبعت موسكو استراتيجية أضيق نطاقًا تُركز على العلاقات الأمنية، حققت الصين اختراقاتٍ واسعة النطاق ومستدامة في أمريكا اللاتينية لتأمين إمداداتٍ موثوقة من الطاقة والمعادن ومختلف المنتجات الغذائية.
"كما عملت بكين على تحديد أهدافٍ للاستثمار الصيني، مثل السدود الكهرومائية في الإكوادور ومشاريع السكك الحديدية في الأرجنتين؛ وحشد الدعم الدبلوماسي من كتلة أمريكا اللاتينية في الأمم المتحدة؛ واكتساب نفوذٍ على الولايات المتحدة من خلال إظهار قدرتها على العمل ضمن نطاق نفوذ واشنطن التقليدي".
واليوم، حلت الصين محل الولايات المتحدة كشريكٍ تجاريٍّ رئيس للعديد من الاقتصادات الكبرى، وأقنعت معظم دول المنطقة بقطع العلاقات الرسمية مع تايوان، وفق المجلة.
وفي حين مهدت البرامج الناشئة للتعاون الصيني مع قوات الشرطة والجيش في أمريكا اللاتينية الطريق لعلاقاتٍ أمنيةٍ موسعة، يُعد الأمر الحاسم أن الصين حققت هذه المكاسب العملية من خلال الدبلوماسية ومن دون مواجهة الولايات المتحدة بشكل مباشر.
وأضاف التقرير أنه "بينما يتزايد الإجماع في واشنطن حول خطورة هذه التهديدات، كما يتضح من بيانات الكونغرس من الحزبين وتقييمات البنتاغون، فشلت إدارة ترامب الأولى وإدارة بايدن في تقليص البصمة الاقتصادية لبكين أو الوجود الاستراتيجي لموسكو بشكل ملموس في نصف الكرة الغربي".
وعلى الرغم من أن إدارة ترامب الثانية تبدو أكثر تركيزًا، وتركز سياستها الإقليمية على عدد قليل من الأولويات الواضحة؛ وقف الهجرة، وفرض رسوم جمركية، ومنع الاتجار بالفنتانيل، لكن هذه المرة، يعاني جيران الولايات المتحدة من آثار حقيقية.
وأشارت "فورين أفيرز" إلى "ارتفاع معدلات الترحيل؛ وفُرضت رسوم جمركية عقابية على البرازيل وكندا والمكسيك، ما أدى إلى تعطيل أنماط التجارة الراسخة؛ وكما فرضت الإدارة ضغوطا دبلوماسية واقتصادية غير مسبوقة على المكسيك للحد من تصنيع المواد الأفيونية الصناعية داخل حدودها".
وخلُصت إلى أنه "ينبغي على الولايات المتحدة ألا تحاول إجبار دول أمريكا اللاتينية على الابتعاد عن الصين بفعل أن الهيمنة الأمريكية المتجددة في نصف الكرة الغربي تتطلب شيئًا أكثر ديمومة من الخوف؛ تدابير توفر مسارات واضحة للازدهار والأمن".