لم تعُد المعركة المستعرة في شوارع المكسيك مجرد مواجهة بين قوات الأمن وعصابات تهريب المخدرات؛ فما يجري اليوم يتجاوز الجريمة المنظمة إلى تحدٍّ مباشر لسيادة الدولة، حيث تحوّلت الكارتلات إلى جيوش موازية تمتلك قدرات عسكرية متطورة بما فيها طائرات مسيّرة مزوّدة بالمتفجرات، وتفرض وقائع سياسية جديدة داخل البلاد.
منذ سنوات، درجت الحكومات المكسيكية على التعامل مع الكارتلات باعتبارها شبكات إجرامية هدفها الأساسي التهريب والابتزاز، لكن المشهد تغيّر جذريًا؛ فالتنظيمات مثل "خاليسكو الجيل الجديد" أو "سينالوا" لم تعد مجرد عصابات، بل باتت تُسيطر على أراضٍ كاملة، وتفرض سلطتها على السكان، بل وتؤثر في نتائج الانتخابات المحلية عبر الترهيب أو شراء الولاءات.
ويرى تقريرٌ نشرته "نيويورك تايمز"، أن هذه الهيمنة جعلت الكارتلات لاعبًا سياسيًا غير معلن؛ إذ يضطر مسؤولون محليون للتفاوض معها، فيما يجد الجيش نفسه في مواجهة خصم لا يقل تسليحًا أو تنظيمًا.
وجاء في السياق أن التحوّل الأمني الأبرز يتمثل في استخدام أسلحة متطورة، بما فيها طائرات مسيّرة مزوّدة بالمتفجرات، قذائف محمولة على الكتف، وبنادق قنص ثقيلة قادرة على إسقاط مروحيات، وهذه القدرات جعلت الدولة المكسيكية تبدو عاجزة عن حماية مواطنيها، وزادت من اعتمادها على الدعم الأميركي، سواء عبر الاستخبارات أو الطائرات المسيّرة المخصّصة للمراقبة.
ويقول مسؤولون وخبراء أمنيون إن عصابات المخدرات في المكسيك تجاوزت حدود الأسلحة التقليدية، لتتحول إلى قوة شبه عسكرية، لم تعد تقتصر على استخدام المسدسات أو البنادق الآلية، بل باتت تعتمد على ألغام كلايمور الأرضية، وقذائف صاروخية، ومدافع هاون مصنوعة من أنابيب خزانات الغاز، إلى جانب شاحنات مدرعة مزودة برشاشات ثقيلة، كما تقوم بدفن العبوات الناسفة لاستهداف أعدائها، وتعديل الطائرات المسيرة المشتراة عبر الإنترنت لتصبح قادرة على حمل القنابل والمواد الكيميائية السامة؛ ما يعكس تصاعدًا خطيرًا في أساليب العنف وتحديًا متزايدًا للأمن الوطني.
من جانبها أوضحت الخبيرة في الجماعات المسلحة غير الحكومية، فاندا فيلباب-براون، من معهد بروكينغز، أن الطائرات المسيّرة تمنح العصابات القدرة على "مهاجمة منافسيها أو قوات الأمن بدقة أكبر بكثير" مقارنة بالقنابل التقليدية، وأضافت أن هذه التقنية تمنحهم القدرة على "الوصول إلى عمق أراضي العدو واستهداف مواقع كان من المستحيل الوصول إليها سابقًا"؛ ما يعكس تحولًا خطيرًا في طبيعة الصراع على الأرض.
ورغم الحملات العسكرية المكثفة، ما زالت الكارتلات قادرة على استعادة قوتها بسرعة؛ ما يثير تساؤلات حول جدوى الاستراتيجية الأمنية الحالية.
في السياق ذاته، وبينما تضغط الولايات المتحدة على المكسيك لكبح تدفق المخدرات نحو الشمال، تتهمها مكسيكو سيتي بالتقاعس عن ضبط سوق السلاح الأمريكي الذي يغذي الكارتلات؛ فأكثر من نصف مليون قطعة سلاح تُهرّب سنويًا من ولايات حدودية مثل تكساس وأريزونا، لتعود كرصاص يحصد أرواح المكسيكيين.
هذه المعادلة خلقت توترًا سياسيًا مستمرًا بين البلدين؛ إذ تعتبر المكسيك أن معركتها الأمنية مرهونة بإجراءات لم تُتخذ بعد في واشنطن.
وفي ظل انشغال الولايات المتحدة بملفات دولية أخرى، من أوكرانيا إلى بحر الصين الجنوبي، يبدو أن واشنطن مضطرة لإعادة ترتيب أولوياتها الأمنية في نصف الكرة الغربي، حيث تتداخل قضايا الهجرة والمخدرات والسلاح في معركة واحدة.
والواقع اليوم يضع المكسيك أمام اختبار وجودي؛ فهل تستطيع الدولة استعادة هيبتها وسط تفكك أمني خطير؟ أم أن الكارتلات ستواصل ترسيخ سلطتها السياسية والأمنية، لتصبح المكسيك دولة بوجهين، رسمي وغير رسمي؟.
الإجابة لم تتضح بعد، لكن ما هو مؤكد أن المعركة لم تعد تخص المكسيك وحدها، بل تمثل تهديدًا مباشرًا للأمن الإقليمي والسياسة الأمريكية في القارة.