يشير الانسحاب الجزئي للقوات الأوكرانية من إقليم دونيتسك إلى تعقيدات عميقة تتجاوز البعد العسكري البحت، ويكشف عن مقايضات محفوفة بالمخاطر على صعيد السيادة والاستراتيجية، وفق خبراء.
وقال الخبراء إن هذه الخطوة، رغم ما قد تبدو كتهدئة مؤقتة، لا تحل عقدة الإقليم، بل تحول الصراع من مواجهة مباشرة إلى تهديد كامن لأمن الدولة واستقرارها.
وألمح الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الأربعاء إلى إمكانية سحب القوات الأوكرانية من الجزء الخاضع لسيطرة كييف في دونيتسك وهو ما تطالب به الولايات المتحدة وروسيا.
وتمثل دونيتسك جرجًا مفتوحًا منذ 2014، حين تحولت إلى ساحة صراع بالوكالة عبر انفصاليين مدعومين من موسكو، قبل أن تعلن روسيا في 2022 ضم الإقليم كاملاً.
وخلال الأشهر الماضية، وجدت كييف نفسها تحت ضغط عسكري متصاعد، خاصة بعد انسحابات تكتيكية مؤلمة، كان آخرها من محيط سيفيرسك الشهر الجاري، ما عزز الشعور بأن استمرار الدفاع بالوتيرة نفسها لم يعد ممكنًا
وتقرّر أن يكون "الانسحاب الجزئي" للقوات الأوكرانية من دونيتسك خطوة استباقية لتحويل المنطقة إلى "منطقة اقتصادية حرة" تحت إدارة أوكرانية ورقابة دولية صارمة تمنع أي تقدم عسكري.
وتشمل الخطة ضمانات أمنية أمريكية وأوروبية شبيهة بالمادة الخامسة في حلف الناتو، وإدارة مشتركة لمحطة زابوريجيا النووية، وسحبًا روسيًا من جبهات خاركيف وسومي ودنيبروبيتروفسك.
وقال د. سعيد سلام، مدير مركز فيجن للدراسات الاستراتيجية في أوكرانيا، "إن الانسحاب الأوكراني الجزئي من أراض لم تطأها أقدام الاحتلال الروسي في إقليم دونيتسك لا يمكن توصيفه كحل لعقدة الإقليم، بل هو في الواقع مقايضة غير متوازنة وعالية المخاطر الجيوسياسية".
ويرى سلام لـ"إرم نيوز" أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ترى في هذا الانسحاب "تنازلاً ضروريًا لكسر جمود التفاوض وشرعنة الهدنة الاقتصادية عبر تقليص نقاط الاحتكاك وتدشين مناطق استثمارية خاصة".
وأضاف أن كييف على الجانب الآخر تعتبر "إخلاء مدن حصينة مثل كراماتورسك وسلوفيانسك تقويضًا لبنية دفاعية شُيدت على مدار عقد كامل، ما يترك العمق الأوكراني مكشوفًا بالكامل أمام أي غزو روسي مستقبلي يستهدف قلب الدولة".
وقال سلام "إن الانسحاب لا يفكك العقدة، بل يحولها من صدام عسكري نشط إلى تهديد استراتيجي كامن يهدد بقاء الدولة ذاتها".
وأشار إلى أن أهمية إقليم دونيتسك تتجاوز البعد الجغرافي "إذ يمتلك أهمية استراتيجية وصناعية وجيوسياسية كبيرة"، مضيفًا أن "إصرار موسكو على الضم الشامل للإقليم لا يقتصر على التوسع الجغرافي، بل يهدف إلى انتزاع اعتراف دولي بشرعية الغزو وتحويل الاحتلال إلى أمر واقع قانوني".
وأوضح مدير مركز فيجن للدراسات الاستراتيجية أن "أي انسحاب جزئي في هذا السياق لن يكبح الجماح التوسعي الروسي، بل سيبث رسائل ضعف استراتيجية تُغري الكرملين بالاستمرار في الحرب لتحصيل مكاسب أوسع".
وأشار إلى أن مبدأ الانسحاب يصطدم بـ"جدار الانسداد السياسي، إذ يستحيل على كييف التنازل عن حقها السيادي، في حين لا تظهر موسكو أي نية للتراجع عن طموح شرعنة الضم، ما يحوّل أي انسحاب إلى مجرد إعادة تموضع داخل حلبة استنزاف أكثر اتساعًا".
وأضاف سلام أن "التحول البنيوي في الدور الأوروبي، الذي بات أكثر صلابة، يعزز سيناريو الاستنزاف الاستراتيجي المتبادل كبديل واقعي لخطط الانسحاب المحفوفة بالمخاطر".
وقال إن "مع تصاعد الدعم العسكري الأوروبي وتآكل موارد البترودولار الروسية، تخلص التقديرات في كييف إلى أن كلفة الصمود في دونيتسك، رغم وطأتها، تبقى استراتيجيًا أدنى من كلفة الانسحاب الذي قد يفضي إلى انهيار الجبهتين العسكرية والداخلية معًا".
وأشار إلى أن "الانتقال بساحة المعركة إلى الداخل الروسي قد أعاد صياغة معادلة الردع، إذ لم يعد الاستنزاف مقتصرًا على الجبهات الأمامية، بل امتد ليطال مراكز الثقل الاقتصادي واللوجستي في العمق الروسي، ما يرفع من كلفة الغزو ويجعل من استمراريته عبئًا لا يمكن تحمله ماليًا على المدى البعيد".
من جانبه، أكد ديميتري بريجع، مدير وحدة الدراسات الروسية في مركز الدراسات العربية الأوراسية، "أن انسحاب القوات الأوكرانية من الأراضي التي أصبحت خاضعة للدستور الروسي من شأنه أن يسهم في حل جزء من الأزمة، مشددًا على أن المشكلة لا تقتصر على الجانب العسكري فقط، بل ترتبط بعقدة سياسية معقدة".
وقال بريجع لـ"إرم نيوز" إن "أي تسوية حقيقية تستلزم إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، وإن هذه الخطوة تحتاج إلى وقت وموافقة الطرف الأوكراني، إضافة إلى التعامل مع مسألة الأراضي الأوكرانية الخاضعة للنزاع".
وأشار إلى أن الأمر يتطلب أيضًا "إصلاحات وتعديلات دستورية حتى يتمكن الجانب الأوكراني من القبول بهذه الخطط".
وأوضح بريجع أن "الدستور الأوكراني، ووفقًا لقرارات البرلمان، لا يسمح بالتنازل عن الأراضي الأوكرانية باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من سيادة الدولة، وهو ما يجعل أي حل قانوني مرهونًا بإجراءات معقدة تشمل انتخابات برلمانية، واستفتاءات داخلية، وموافقات رسمية من البرلمان الأوكراني".
وأضاف أن "الحديث عن التنازل عن الأراضي يطرح تساؤلًا جوهريًا حول ما إذا كانت أي دولة ذات سيادة يمكن أن تتخلى عن جزء من أراضيها، مشيرًا إلى أن ذلك قد يحدث فقط في حال إجراء استفتاء شعبي يعبر فيه سكان تلك المناطق عن رغبتهم في الانضمام إلى دولة أخرى، وبموافقة الطرف المعني بهذه المبادرة".
وأكد بريجع أن "استعادة هذه الأراضي بالقوة أو السلاح لم تعد خيارًا واقعيًا، لافتًا إلى أن روسيا لن تسمح بذلك، في ظل ما تمتلكه من قدرات عسكرية وصناعية كبيرة، فضلًا عن شبكة تحالفات قوية، كما حدث في بعض المناطق عندما لجأت موسكو إلى تعزيز قواتها بدعم من حلفائها".