لم تعد الحرب في أوكرانيا صراعًا تقليديًا على الأرض والنفوذ، بل تحولت إلى اختبار قاسٍ لمصداقية النظام الدولي نفسه، وفي قلب هذا الاختبار، يبرز مفهوم "الأسلحة النووية الغائبة" بوصفها عقدة سياسية وأمنية تُلقي بظلالها الثقيلة على أي محاولة لصياغة تسوية شاملة.
وعقب تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991، وجدت أوكرانيا نفسها تمتلك ثالث أكبر ترسانة نووية في العالم، ضمت نحو 1900 رأس نووي استراتيجي إلى جانب آلاف الأسلحة التكتيكية، وهذا الإرث لم يستمر طويلًا.
ففي عام 1994، وقعت كييف مذكرة بودابست، وتخلت بموجبها عن كامل ترسانتها النووية مقابل ضمانات أمنية من روسيا والولايات المتحدة وبريطانيا، تشمل احترام سيادتها وعدم استخدام القوة ضدها.
وبحلول عام 1996، أصبحت أوكرانيا رسميًا دولة غير نووية، لكن ما بدا حينها نموذجًا ناجحًا لنزع السلاح تحول لاحقًا إلى مثال صارخ على هشاشة الضمانات الدولية، خاصة بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، ثم اندلاع الحرب الشاملة في 2022.
واليوم يُنظر إلى "الأسلحة النووية الغائبة" باعتبارها رمزًا لفقدان الثقة، لا مجرد سلاح لم يعد موجودًا، خاصة أن الغزو الروسي أعاد فتح السؤال الجوهري، ماذا كانت ستفعل موسكو لو احتفظت أوكرانيا بقدرة ردع نووي؟
وفي أكثر من مناسبة، عبر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عن هذه المعضلة أكثر من مرة، مؤكدًا أن الضمانات غير الملزمة لم تمنع الحرب.
وفي خطاب له أمام الأمم المتحدة، حذر من أن العالم يقترب من "أخطر سباق تسلح في التاريخ"، معتبرًا أن غياب الردع الحقيقي يفتح الباب أمام استخدام القوة بدل القانون الدولي.
وفي المقابل، لا تُخفي موسكو استخدام الورقة النووية في خطابها السياسي، وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إنه "لا يرى ضرورة لاستخدام السلاح النووي في أوكرانيا"، لكنه شدد في الوقت نفسه على أن روسيا تمتلك من القوة ما يكفي "لإنهاء الصراع بشروطها".
وفي ذات السياق، تحاول الولايات المتحدة بدورها الموازنة بين منع التصعيد النووي والحفاظ على دعم أوكرانيا، وحذر ترامب مخاطر الانزلاق إلى مواجهة نووية غير محسوبة.
وفي الوقت ذاته، لوحت واشنطن بقوتها النووية، إذ أعلن ترامب أن بلاده "تمتلك أكبر وأقوى ترسانة نووية في العالم"، مؤكدًا أن الردع الأمريكي سيبقى حاضرًا لمنع أي مغامرة روسية.
ووفقًا للمراقبين، تكمن المعضلة الأساسية في أن أي اتفاق سلام لا يعالج مسألة الأمن طويل الأمد سيظل هشًا، إذ إن أوكرانيا التي فقدت سلاحها النووي مقابل وعود لم تُحترم، تطالب اليوم بضمانات أقوى.
وفي الوقت نفسه، ترى روسيا أن أي ترتيبات أمنية صارمة لكييف تمثل تهديدًا مباشرًا لها، وبين هذا وذاك، يقف المجتمع الدولي عاجزًا عن تقديم صيغة تعيد الثقة المفقودة.
ويرى الخبراء أن الأسلحة النووية باتت عنصرًا غائبًا عن ساحة الاستخدام الفعلي، لكنها تظل حاضرة بقوة كأداة ردع وضغط سياسي في الصراع الأوكراني، مشيرين إلى أن التلويح بها يهدف إلى منع التصعيد الواسع ودفع الأطراف نحو التفاوض.
وأضاف الخبراء أن هذا السلاح رغم خطورته، يمثل في الوقت ذاته العقبة الكبرى أمام تسوية شاملة، إذ يفرض خطوطًا حمراء تمنع الانزلاق إلى مواجهة مباشرة، وتؤخر الحسم السياسي، وتجعل مسار التسوية رهينًا بتوازن الردع وليس بإنهاء جذور الصراع.
في البداية، قال عبد المسيح الشامي، خبير العلاقات الدولية والمتخصص في الشؤون الأوروبية، إن السلاح النووي يُصنف باعتباره سلاح ردع بالأساس، وليس سلاحًا معدًا للاستخدام الفعلي في الحروب.
وأشار الشامي في تصريحات لـ"إرم نيوز" إلى أن الغاية الحقيقية من امتلاك السلاح النووي لا تتجاوز كونه أداة ضغط وردع، تتيح للدول منع أي عدوان محتمل، مؤكدًا أنه لا يعتقد بوجود دولة تضع في مخططاتها الفعلية استخدام هذا السلاح؛ نظرًا لما يحمله من دمار شامل يهدد البشرية.
وشدد خبير العلاقات الدولية، على أنه لا يمكن تصور لجوء أي عقل راشد إلى استخدام السلاح النووي تحت أي شعار أو ذريعة، منبهًا إلى أن الدول الكبرى ورغم الخلافات الحادة فيما بينها وانسحاب بعضها من اتفاقيات تقيد انتشار أسلحة الدمار الشامل، لا تزال ملتزمة بصورة مباشرة أو غير مباشرة بعدم اللجوء إلى هذا السلاح.
وأوضح المحلل السياسي أن هناك تفاهمات قائمة بين الولايات المتحدة وروسيا، سواء كانت تفاهمات موثقة أم ضمنية، إلى جانب تفاهمات مشابهة تشمل الصين وبريطانيا وفرنسا، تقوم جميعها على عدم استخدام السلاح النووي تحت أي ظرف أو ذريعة.
واعتبر أن التصريحات الروسية المتعلقة بإمكانية استخدام السلاح النووي حال تعرض روسيا لتهديد وجودي هي تصريحات مبالغ فيها، موضحًا أن الهدف الحقيقي من هذا الخطاب يقتصر على الردع وممارسة الضغوط السياسية على أوروبا والغرب، وليس التمهيد لاستخدام فعلي للسلاح النووي.
وأضاف أن الوصول إلى مرحلة استخدام السلاح النووي ضد أوروبا يبقى أمرًا غير وارد، مستبعدًا بشكل قاطع حدوث صدام مباشر أو اندلاع حرب عالمية بين أوروبا وروسيا، مؤكدًا أن المعطيات الراهنة لا تشير إلى أي سيناريو من هذا القبيل.
وتابع الشامي أن الصراع سيظل محصورًا داخل الساحة الأوكرانية، لافتًا إلى أنه يشهد تراجعًا تدريجيًا مع تقلص ساحات المواجهة وتراجع القدرة على الاستمرار، رغم تصاعد الخطاب الإعلامي وحدّة التهديدات المتبادلة.
وأشار المحلل السياسي إلى أن مثل هذه الأجواء غالبًا ما تمهد لتسويات سياسية، معربًا عن اعتقاده بأن ملامح التسوية بدأت تلوح في الأفق، حيث يسعى كل طرف إلى تأمين موقع متقدم يحفظ له مكاسب في أي تسوية مقبلة، مؤكدًا في الوقت نفسه غياب أي مؤشرات على صدام واسع أو مواجهة شاملة.
من جانبه، قال رامي القليوبي، الأستاذ بكلية الاستشراق في المدرسة العليا للاقتصاد بموسكو، إن الأسلحة النووية تُعد إحدى أدوات الضغط الرئيسة التي توظفها القوى الكبرى، موضحًا أنها تُستخدم لحماية المصالح وتحقيق توازن استراتيجي، وليست مخصصة للاستخدام في النزاعات التكتيكية، كما هو الحال في النزاع الروسي الأوكراني.
وأكد القليوبي في تصريح لـ"إرم نيوز" إلى أن التلميحات الروسية بشأن استخدام الأسلحة النووية تمثل في جوهرها ورقة ضغط موجهة إلى الغرب، بهدف دفع الأطراف المعنية إلى الانخراط في مسارات تواصل وتفاوض تقود إلى تسوية نهائية.
وكشف رامي القليوبي أن مفهوم الردع النووي يقوم على إبقاء الطرف الآخر في حالة دائمة من الحذر، ومنعه من الجرأة على المساس بمصالح الدولة المالكة لهذا السلاح، مؤكدًا أن هذا التوازن الاستراتيجي يساهم في الحفاظ على قدر من الاستقرار النسبي داخل النظام الدولي.
وأضاف الأستاذ بكلية الاستشراق في المدرسة العليا للاقتصاد بموسكو، أن هناك قناعة راسخة لدى دوائر صنع القرار في موسكو بأن التلويح باستخدام الأسلحة النووية يعزز قدرة روسيا على تحسين شروطها التفاوضية، ويدفع الغرب إلى البحث عن حلول دبلوماسية، بعيدًا عن أي تصعيد عسكري مباشر.