يرى تقرير لمجلة "فورين بوليسي" أن ألمانيا بحاجة إلى "قيادة جريئة" لضبط علاقتها مع إسرائيل، التي تصفها بأنها واحدة من أكثر العلاقات تعقيدًا في العالم.
وشهدت ألمانيا خلال الأشهر الأخيرة تداخلاً، أو بالأحرى تصادمًا، في قضايا عدة، منها المحرقة، ومعاداة السامية، وتصرفات رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ووزرائه المتطرفين، وسعت الحكومات المتعاقبة في برلين إلى ربط كل هذه القضايا وفك تشابكها في آن واحد.
وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، أصبح الاعتراف الصريح بحق إسرائيل في الوجود شرطًا لكل من يسعى للحصول على الجنسية الألمانية، بينما اليوم هناك "تحولات طفيفة" في الخطاب الرسمي، دون أن يغير "الجوهر الثابت" للعلاقة.
وتعتقد فورين بوليسي أن "ألمانيا الحديثة" باتت ملتزمة بـ "الدعم غير المشروط" منذ خطاب المستشارة الألمانية السابقة، أنجيلا ميركل، أمام الكنيست الإسرائيلي العام 2008.
وحينها أعلنت ميركل أن أمن إسرائيل هو "أساس الدولة الألمانية"، وهو موقف تبنته الحكومات الألمانية المتعاقبة، وهذا الالتزام تجلّى بوضوح بعد هجمات 7 أكتوبر 2023، التي نفذتها حماس، وأعقبتها حرب إسرائيلية مدمرة على غزة. وفي ذلك الوقت، أعلنت وزيرة الخارجية آنذاك، أنالينا بيربوك، أن "كلنا إسرائيليون"، معبرة عن التضامن المطلق.
لكن هذا الارتباط بات يثير جدلاً واسعًا في البلاد، حيث يرى منتقدون، بما فيهم يهود ألمان، أن هذا النهج يكبت الانتقادات المشروعة لسياسات إسرائيل، خاصة تحت حكومة بنيامين نتنياهو "اليمينية المتطرفة".
وأصبح النقاش حول إسرائيل في ألمانيا محفوفًا بالمخاطر، إذ يخشى كثيرون من العواقب الاجتماعية والمهنية إذا عبّروا عن آراء نقدية تجاه تل أبيب. فقد شهدت ألمانيا إلغاء دعوات لمؤلفين إلى معارض ثقافية مرموقة مثل معرض فرانكفورت للكتاب، وسحب تمويل منظمات ثقافية، واعتقال متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين.
وتقول فورين بوليسي إن إسرائيل باتت سببًا في انقسام واسع داخل ألمانيا، فبعض وسائل الإعلام والسياسيين يروجون لروايات تبسط الصراع، مثل إلقاء اللوم على الفلسطينيين أو التشكيك في مصداقية الصور الإنسانية من غزة.
في المقابل، يشعر قطاع متزايد من الجمهور الألماني بالإحباط من هذا الدعم غير المشروط، كما يظهر في استطلاعات الرأي التي تشير إلى أن 36% فقط من الألمان ينظرون إلى إسرائيل بإيجابية.
تحديات المستشار الجديد
ومع تولي فريدريش ميرتس منصب المستشار، يواجه تحديًا غير مسبوق. خلال حملته الانتخابية، اقترح دعوة نتنياهو إلى برلين، متحديًا مذكرة الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، لكنه بعد توليه المنصب، اتخذ خطوة مفاجئة بإعلان تعليق تصدير الأسلحة التي يمكن استخدامها في غزة.
وهذا القرار، رغم رمزيته، أثار انتقادات حادة من داخل حزبه ومن وسائل إعلام يمينية مثل بيلد ودي فيلت، فيما يبدو أن ميرتس يحاول تحقيق توازن بين التزام ألمانيا التاريخي تجاه إسرائيل وبين الضغوط الأوروبية المتزايدة لاتخاذ موقف أكثر نقدًا تجاه تصرفات إسرائيل.
لكن هذا التوازن ليس سهلاً، وفق فورين بوليسي، ففي حين أعربت فرنسا والمملكة المتحدة عن نيتهما الاعتراف بدولة فلسطينية، رفضت ألمانيا هذه الخطوة؛ ما يعكس استمرار الحذر في تغيير السياسة الخارجية.
الطريق إلى الأمام
واليوم تواجه ألمانيا معضلة أخلاقية وسياسية، بأن توفق بين ذاكرتها التاريخية والتزاماتها تجاه تل أبيب وبين الواقع الحالي للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فيما ترى فورين بوليسي أن استمرار قمع النقاش العام لن يؤدي إلا إلى تعميق الانقسامات الاجتماعية، وربما يغذي اليمين المتطرف الذي يستغل هذه القضية لتأجيج التوترات ضد المهاجرين.
وتعتقد المجلة أن الحل يكمن في تعزيز نقاش عام أكثر انفتاحًا وشجاعة، يسمح بالانتقاد المشروع دون خوف من الاتهام بمعاداة السامية، مطالبة كذلك بأن على ألمانيا أن تتخذ موقفًا أكثر موضوعية تجاه إسرائيل، يدعم حقها في الوجود مع الضغط من أجل سياسات تعزز السلام.
كما ترى أن ألمانيا بحاجة إلى "قيادة جريئة"، قادرة على مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية، و"التخلص من عبء الذنب التاريخي دون إنكار الماضي"، معتبرة أن تحقيق هذا التوازن "هو السبيل الوحيد لضمان أن تكون ألمانيا على الجانب الصحيح من التاريخ".