بعد يومين من انطلاقها، تبدو مناورات "زاباد 2025" الروسية-البيلاروسية أكثر من مجرد تدريب عسكري دوري، وعلى الرغم من أنها تُجرى بانتظام كل 4 سنوات منذ 2009، إلا أن نسختها الحالية تكتسب أهمية استثنائية نظرًا لتزامنها مع أجواء تصعيدية مع دول البلطيق بشكل خاص وحلف الناتو بشكل عام، بالإضافة إلى التحذيرات الأمريكية من نفاد صبر ترامب من الحرب الروسية.
ووفق تقديرات حلف الناتو، يشارك في "زاباد 2025" ما يصل إلى 150 ألف جندي من روسيا وبيلاروسيا، ما يجعلها واحدة من أضخم المناورات في المنطقة. هذا الحشد ليس استعراضًا للعدد فقط، بل يصاحبه إدخال منظومات سلاح متقدمة، على رأسها صاروخ "أوريشنيك" الفرط صوتي متوسط المدى، بمدى يتجاوز 3000 كيلومتر، وسرعة تصل إلى ماخ 11، مع قدرة على حمل رؤوس تقليدية أو نووية.
الأخطر في هذه النسخة من "زاباد" هو إدراج تدريبات على استخدام الأسلحة النووية التكتيكية، ما يرفع المناورة من مجرد تمرين دفاعي إلى رسالة ردع نووي صريحة.
وتنظر دول، مثل: بولندا، وليتوانيا، ولاتفيا، إلى هذه الخطوة كاستفزاز مباشر، وتخشى أن تتحول حدودها الشرقية إلى ساحة مواجهة محتملة.
وفي المقابل، هناك توقعات أوروبية بتحرك حلف شمال الأطلسي لتعزيز الدفاعات الصاروخية في دول البلطيق وبولندا، وربما الإعلان عن مناورات مضادة، وهو سيناريو مألوف منذ سنوات، لكنه هذه المرة يأتي في ظل تقاطع مع الحرب الأوكرانية المستمرة.
دلالات توقيت المناورة
وعن دلالات اختيار هذا التوقيت، يرى الخبراء أن مناورات "زاباد 2025" تمثل محطة فارقة في خريطة التوازنات العسكرية، حيث تحمل دلالات تتجاوز مجرد الاستعراض العسكري.
وأشار الخبراء إلى أن التوقيت يتزامن مع تصاعد الأزمة الأوكرانية وتنامي التوتر بين موسكو ودول البلطيق وبولندا، ما يعكس خشية روسية من فتح جبهة شمالية جديدة تمتد من بحر البلطيق حتى المحيط المتجمد الشمالي.
وأضاف الخبراء أن أهمية هذه المناورات تكمن أيضًا في بُعديها السياسي والنفسي، فهي تعكس عسكرة متزايدة للنظام البيلاروسي وتثبيت حضوره على حدود الناتو، إلى جانب اختبار الجاهزية الأوروبية في حال اتساع النزاع.
وقال آصف ملحم، مدير مركز "جي إس إم" للأبحاث والدراسات في روسيا، إن هناك الكثير من المؤشرات التي تكسب هذه المناورة أهمية كبيرة، وأبرزها أن هذه العمليات العسكرية ستشمل مناطق داخل روسيا وبيلاروسيا، وكذلك في بحر البلطيق وبحر بارنتس، مما يشير إلى تخوف روسي من إمكانية تحريك الجبهة الشمالية الغربية، وتحديدًا مع فنلندا.
وأضاف ملحم لـ"إرم نيوز" أن هذه المناورات تتضمن لأول مرة تدريبات على إطلاق صواريخ "آرشينك"، بالإضافة إلى استخدام الأسلحة النووية التكتيكية، وهو ما يعد مؤشرًا خطيرًا.
أسلحة نووية تكتيكية
وأشار ملحم إلى أن بيلاروسيا تحتوي على أسلحة نووية تكتيكية نشرتها روسيا العام 2023، وأن صاروخ "آرشينك" هو أحد الصواريخ التي وعدت روسيا بتقديمها إلى بيلاروسيا بحلول نهاية عام 2025.
وأوضح أن بعض التدريبات ستُجرى قرب الحدود الليتوانية-البولندية، وهو ما يعد مؤشرًا على تصاعد التوتر في هذه الجبهة، لاسيما مع تصاعد التصريحات العدائية من بولندا ودول البلطيق ضد روسيا، خاصة في الفترة الأخيرة بعد اختراق المسيّرات داخل الأراضي البولندية.
ولفت إلى أنه بالتوازي مع هذه المناورات، ستُجري دول الناتو مناورات مضادة تحت اسم "تارسيس"، والتي ستُقام في بحر البلطيق بمشاركة 11 دولة: أبرزها النرويج، وبريطانيا، والسويد، وفنلندا، التي انضمت حديثًا إلى الناتو، كما ستُجري بولندا، وليتوانيا، مناورات مستقلة.
وأشار مدير مركز "جي إس إم" للأبحاث والدراسات في روسيا إلى أن شهر سبتمبر سيشهد حشدًا عسكريًا غير مسبوق على الحدود الروسية-البيلاروسية، مقابل حشد من قوات الناتو في فنلندا ودول البلطيق وغيرها من الدول المجاورة، وهو ما يعني حالة تأهب قصوى من الجانبين.
وأوضح أنه في مناورات "زاباد 2021" شاركت روسيا بـ200 ألف جندي، واليوم يُعتقد أن العدد قد يكون أكبر، ولكن لم يتم التصريح به رسميًا، وعلى الجانب الآخر ستشارك بولندا بـ30 ألف جندي، ومع حساب باقي القوات المشاركة من دول الناتو، فقد يصل العدد الإجمالي إلى نحو 200 ألف جندي، وهو ما يشير إلى أن هذا الوضع غير مسبوق.
من جانبه، قال العميد نضال زهوي، الخبير العسكري والإستراتيجي، إن المناورة البيلاروسية-الروسية المشتركة تأتي في سياق متصاعد، خاصة بعد دخول بعض المسيّرات الروسية، خلال الأسبوع الماضي، باتجاه بولندا، وهو ما استفز القدرات الأوروبية بشكل عام، وأسهم في إعادة شد العصب الأوروبي من جديد.
وأكد زهوي لـ"إرم نيوز" أن هذه المناورة لم تأتِ بشكل مفاجئ، بل سبقها تحضير استمر عدة أشهر، مما يشير إلى وجود نية مبيّتة لتوجيه رسائل تتجاوز مجرد الاستعراض العسكري أمام حلف الناتو، حيث تمتد إلى أهداف ومفاهيم أبعد وأكثر تعقيدًا.
رسائل روسية
وأشار الخبير العسكري إلى أن هناك 4 رسائل رئيسة ضمن أهداف المناورة:
الأولى: اختبار جاهزية الجبهة الشمالية في حال توسع النزاع، خاصة من ناحية الجاهزية الأوروبية للرد على أي تصعيد محتمل.
الثانية: تكريس عسكرة النظام البيلاروسي من خلال تهيئة الرأي العام الداخلي في بيلاروسيا لاحتمال نشر أسلحة قد تكون نووية أو نووية تكتيكية، وهو ما يمهّد لانخراطها بشكل غير مباشر في مراحل لاحقة من الحرب الدائرة.
الثالثة: التدريب على نشر أسلحة نووية تكتيكية، وهي خطوة تحمل رسائل ردع واضحة إلى الأطراف المعنية.
الرابعة: توجيه رسالة مباشرة إلى أوكرانيا من الجهة الشمالية تتضمن أن القدرات العسكرية الروسية-البيلاروسية يمكن أن تُستخدم في أي لحظة، سواء من جهة الشمال أو الجنوب، في حال توسع النزاع.
وقال العميد نضال زهوي إن هذه المناورة تتجاوز كونها مجرد عرض عسكري، فهي تتضمن ضغوطًا نفسية وسياسية، إلى جانب ما تحمله من رسائل ردع نووية، وتشكل محاولة لإعادة صياغة التوازن العسكري في شمال أوروبا كما في شرقها.
وشدّد على أن انخراط بيلاروسيا في هذا السياق يخدم المصالح الروسية دون شك، ولا يخدم المصالح الأوروبية، وأن وجود بيلاروسيا على حدود حلف الناتو يشكل عامل ضغط متقدمًا ومؤثرًا في مجمل الصراع الدائر حاليًا.