في تطور لافت يعكس حجم القلق الأوروبي من تمدد "الحرب الهجينة" الروسية، بدأ حلف الناتو مراجعة قواعد الاشتباك التقليدية، في خطوة قد تحمل ملامح تحول جذري في فلسفة الردع التي اتبعها التحالف طوال العقدين الماضيين.
فخلال الأشهر الأخيرة، توالت حوادث قطع الكابلات في بحر البلطيق، وتزايدت الهجمات السيبرانية، وتكررت توغلات الطائرات المسيرة داخل مواقع حساسة، في وقت تتهم فيه عواصم أوروبية موسكو صراحة بدفع القارة نحو اختبار قوة غير مسبوق.
وبينما اكتفى الحلف طويلًا بسياسة "الرد بعد وقوع الهجوم"، إلا أن الناتو يتجه اليوم نحو معادلة جديدة تتضمن استباق الضربة قبل أن تقع، وهذا التحول برز بوضوح مع إعلان رئيس اللجنة العسكرية للناتو، جوزيبي دراغوني، أن الحلف يدرس اتخاذ مواقف "أكثر عدوانية" في مواجهة الهجمات الإلكترونية الروسية وأعمال التخريب، مع التركيز على خيار "الرد الاستباقي".
ورغم أن دول البلطيق كانت الأكثر دفعًا نحو هذا الاتجاه، معتبرة أن "الردع لا يُقاس بالنوايا بل بالأفعال"، فإن العواصم الأوروبية الكبرى تدرك أن الانتقال من سياسة رد الفعل إلى الهجوم الوقائي يعني فعليًا الاقتراب من خط أحمر ظل الحلف يتجنبه لعقود.
في المقابل، سارع الجانب الروسي إلى التنديد بشدة، ووصفت الخارجية الروسية تصريحات دراغوني بأنها "خطوة غير مسؤولة للغاية" و"محاولة متعمدة لجرّ المنطقة إلى مواجهة مفتوحة"، معتبرة أن الحديث عن ضربات استباقية "ينسف أسطورة الحلف الدفاعي".
في هذا السياق، تتزايد التساؤلات داخل أروقة الناتو حول ما إذا كان الحلف مقبلًا على مرحلة جديدة من الاشتباك، خاصة أنه في المرحلة الماضية كان يلوح بخيارات هجومية فقط لرفع كلفة الهجمات الروسية دون نية حقيقية في تنفيذها.
ويرى الخبراء أن إعلان رئيس اللجنة العسكرية للناتو جوزيبي دراغوني عن دراسة مواقف أكثر عدوانية ضد الهجمات الإلكترونية الروسية وأعمال التخريب يفتح الباب أمام مراجعة شاملة لقواعد الاشتباك داخل الحلف، في خطوة قد تمهد لفصل جديد من المواجهة المباشرة مع موسكو.
وقال برنت سادلر، المسؤول السابق بوزارة الحرب الأمريكية (البنتاغون)، إن الرد على التهديدات السيبرانية الروسية جاء متأخرًا جدًا، وإن التفاصيل الدقيقة لهذه الهجمات تلعب دورًا محوريًا في تقييم الموقف، خصوصًا في ظل محدودية المعلومات المتاحة عنها.
وأضاف سادلر في حديث لـ"إرم نيوز" أنه كان يجب على حلف الناتو أن يضع منذ سنوات إجراءات مضادة حازمة لمواجهة الهجمات السيبرانيـة الروسية المستمرة منذ أكثر من عقد، لأن التحرك المبكر كان سيعزز الردع ويُحصّن الأمن الرقمي للدول الأعضاء.
وتابع سادلر تحليله قائلاً إن طول مدة التأخر في الرد يكشف عن تحديات استراتيجية صعبة تواجه الحلف، مثل ضعف التنسيق بين الدول الأعضاء، واعتماد بعض الدول على استراتيجيات دفاعية تقليدية في مواجهة تهديدات رقمية متطورة.
وأوضح أن هذا التأخر أسهم في توسيع نطاق الهجمات وزيادة أثرها على البنى التحتية الحساسة في الدول الغربية، ما يجعل تطوير خطط استباقية أكثر فاعلية ضرورة ملحة لحماية الأمن الرقمي مستقبلاً.
ومن جانبه، أكد كارزان حميد، المحلل السياسي والخبير في الشؤون الأوروبية، أنه كلما تحركت الجهود الدبلوماسية لإنهاء الصراع الروسي الأوكراني، تتصاعد تصريحات ناريـة من قادة التكتل الأوروبي وحلف الشمال الأطلسي، وكأنها إشارات مبكرة لعرقلة أي مساعٍ لوقف إطلاق النار على الجبهات.
وفي تصريح لـ"إرم نيوز" لفت حميد، إلى أن تصريحات جوزيبي دراغوني، رغم طابعها العسكري، تعكس استعدادًا أوروبيًا متزايدًا لاحتمال مواجهة مقبلة مع روسيا، لكن البيروقراطية وقيود القوانين قد تعرقل هذا التحرك في منتصف الطريق.
وأوضح حميد أن الحديث عن هجمات استباقية للناتو ضد أهداف روسية، سواء إلكترونية أو عبر استهداف ناقلات الظل، سيؤدي إلى تعقيد الصورة سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا، لأن موسكو لن تقف متفرجة، وهو ما يشكل هاجسًا أساسيًا لبروكسل.
وأضاف أن أوروبا تعرضت أخيرا لحوادث من "الحرب الهجينة"، يُنسب بعضها لروسيا، ما يبرز وجود أطراف تدفع القارة نحو مواجهة مباشرة مع موسكو.
وأكد الخبير في الشؤون الأوروبية، أن التحركات الأوروبية لم تُحدِث صدى كبيرًا لدى واشنطن أو الكرملين، في ظل تبادل الطرفين مصالحهما الدولية بمعزل عن الآخرين، مشيرًا إلى احتمال عقد تفاهمات كبرى بينهما، كتنازل روسيا عن نفوذها في فنزويلا مقابل تقليص أمريكا دعمها لكييف.
ورأى أن موقف الولايات المتحدة تجاه الحلف الأوروبي لا يزال غامضًا في عهد دونالد ترامب، وهو ما يضع الدول الأوروبية أمام تحدٍّ حقيقي بشأن تفعيل البند الخامس للناتو.
وأشار حميد إلى أن القادة الأوروبيين يبالغون أحيانًا في تقدير قدراتهم الميدانية دون النظر إلى مدى جاهزية الشعوب التي استوعبت دروس الحربين العالميتين، وفق تعبيره.
واعتبر أن أي تراجع في مستوى التمثيل الأمريكي داخل اجتماعات الناتو يرسل رسالة واضحة للأوروبيين بأن أي تهور قد يتركهم في مواجهة مباشرة مع روسيا.