يلقي امتناع وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو عن حضور اجتماع وزراء خارجية حلف "الناتو" في بروكسل بظلال ثقيلة على الحلف، في وقت يتصاعد فيه القلق الأوروبي من تقارب واشنطن مع موسكو على خلفية “خطة السلام ذات الـ28 نقطة” الخاصة بأوكرانيا.
وجاء غياب روبيو، الذي أوفد نائبه بدلاً عنه، ليعمّق الشكوك حول التزام الولايات المتحدة بأمن أوروبا، ويعيد إلى الواجهة الهواجس التي ترافقت مع إعادة انتخاب دونالد ترامب، رغم تأكيده الأخير التمسك بالمادة الخامسة من ميثاق الناتو.
وتقول صحيفة "لو فيغارو": "بينما يسعى الحلف لإظهار تماسكه، تبدو مواقف واشنطن المتذبذبة وإعادة تقييم انتشار قواتها في القارة بمثابة إنذار جديد للأوروبيين بأن عليهم تحمل مسؤولية أكبر في أمنهم الجماعي".
وتضيف: "يشعر الأوروبيون بالقلق من رؤية حليفهم الأمريكي يتقرب من موسكو في محاولة للتوسط في لإحلال السلام في أوكرانيا من وراء ظهورهم ما يثير شكوكهم بشأن تصورهم المشترك للتهديد الروسي، وهو الأساس الذي يقوم عليه حلف الناتو".
تُطرح مجددًا التساؤلات حول مدى التزام الولايات المتحدة تجاه حلف الناتو منذ إعادة انتخاب دونالد ترامب الذي طمأن في قمة لاهاي في يونيو/حزيران،الحلفاء جزئيًا، بعد أن نجح في فرض زيادة مساهماتهم الدفاعية إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، كجزء من تقاسم أكثر عدلاً للأعباء. وبعد مفاوضات طويلة، جدد تأكيده على الالتزام بالمادة الخامسة من معاهدة الناتو، التي تكفل الدعم المتبادل في حال وقوع هجوم.
تُعلق ماريا مارتيسيوت، المسؤولة السابقة في حلف الناتو والخبيرة حاليًا في مركز السياسة الأوروبية على الممارسات الأمريكية، قائلة: "الأمريكيون يتسمون بالغموض، وهذا أقل ما يمكن وصفهم به".
وتضيف: "بالنسبة للأمريكيين، روسيا ليست تهديدًا بقدر ما هي شريك تجاري يتعاملون معه. لذا يجب على الأوروبيين بذل جهود مستمرة للحد من المخاطر. وفي النهاية، فإن قدرة الناتو على الرد ومصداقيته على المحك، وخصومنا يدركون ذلك جيدًا".
في البعثات الوطنية الأوروبية لدى حلف الناتو، شعر الدبلوماسيون بسخط واضح بعد اكتشاف أن "خطة الـ 28 نقطة" المثيرة للجدل تقترح أن تتصرف الولايات المتحدة كوسيط بين روسيا والناتو، وكأنها ليست عضوًا في الحلف.
وتشير الخطة أيضًا إلى أن الحلف سيلتزم بعدم دمج أوكرانيا أو أي دولة أخرى وعدم نشر قوات على أراضيها. وأكد ممثل إحدى الدول الأعضاء أن "أي قرار يتعلق بالناتو أو بالأمن الأوروبي لا يمكن اتخاذه خارج هذه القاعة، دون مشاركة جميع الحلفاء الـ 32".
يبذل الأمين العام لحلف الناتو، مارك روته، جهودًا كبيرة للحفاظ على موقف ترامب في قيادة الحلف، مشيرًا إلى أن "الشخص الوحيد الذي استطاع كسر الجمود في الحرب بأوكرانيا هو دونالد ترامب"، ووصفه سابقًا بأنه "أب" الأوروبيين. كما اعتبر أن غياب وزير الخارجية روبيو عن اجتماع بروكسل كان "مقبولًا تمامًا".
إلا أن الولايات المتحدة تضع حلفاءها الأوروبيين في موقف صعب فيما يتعلق بالتزاماتهم الدفاعية، فقد اعتُبر إعلان نهاية أكتوبر عن انسحاب لواء أمريكي متمركز في رومانيا بمثابة الخطوة الأولى لإعادة تحديد "موقف القوة" للولايات المتحدة تجاه قواتها البالغ عددها نحو 80 ألف جندي في القارة الأوروبية.
يشير السفير الأمريكي لدى حلف الناتو، ماثيو ويتاكر، بوضوح إلى رغبة بلاده في أن يتحمل الأوروبيون مزيدًا من المسؤولية الدفاعية بمفردهم. وفي منتصف نوفمبر/تشرين الثاني، اقترح في برلين إمكانية تولي ضابط ألماني منصب القائد الأعلى لقوات الحلفاء في أوروبا (SACEUR)، وهو المنصب الذي شغله الأمريكيون حصريًا منذ عهد أيزنهاور، ويشغله حاليًا الجنرال أليكسوس غرينكيفيتش منذ يوليو/تموز.
ويُحذر مصدر أوروبي من أن أي تدخل أمريكي مستقبلي لدعم أوروبا لن يحدث إلا إذا كان القائد أمريكيًا.
في الوقت نفسه، وعلى عكس موقف إدارته في واشنطن، يشجع السفير الأمريكي ويتاكر الأوروبيين على اعتماد موقف أكثر صرامة تجاه موسكو. وقد أعاد هذا الأسبوع تأكيد تصريحات الأدميرال جوزيبي دراغون، رئيس اللجنة العسكرية لحلف الناتو، حول ضرورة الرد على أعمال الحرب الهجينة الروسية، متجاوزًا المخاوف من احتمال التصعيد.
وتقول ماريا مارتيسيوت: "روسيا هي التي تُصعّد، لكنها لا تحترم سوى القوة. من الضروري وضع حدود. في أوكرانيا، كنا دائمًا خطوة وراء الأحداث".
ويُبرز هذا المنطق سبب رفض الولايات المتحدة تقديم التزامات واضحة لدعم الضمانات الأمنية لأوكرانيا ضمن تسوية سلمية. ويرى الأمين العام السابق لحلف الناتو، أندرس فوغ راسموسن من الدنمارك، الذي يُقدم المشورة لكييف في هذا الشأن، أن "حان وقت الاستيقاظ: لماذا لا يمكننا إدارة أمورنا دون الاعتماد على أمريكا؟"، مضيفًا أن "الأمر محرج، فالأوروبيون ما زالوا غير قادرين على الوقوف على أقدامهم لضمان أمنهم".