تتعامل الولايات المتحدة خلال الأيام الأخيرة مع المشهد الفنزويلي بقدرٍ غير مسبوق من الجدية.
فالتوتر الذي يتصاعد منذ مطلع الخريف في البحر الكاريبي لم يعد مرتبطاً فقط بموقف واشنطن من سياسات نيكولاس مادورو، إنما اتخذ بعداً إضافياً بفعل الدور الذي تلعبه طهران من خلال الحرس الثوري داخل الأراضي الفنزويلية وفي محيطها البحري.
هذا التداخل بين فاعل معادٍ للمصالح الأمريكية يتمدد من الشرق الأوسط، وسلطة تبحث داخل نصف الكرة الغربي عن حلفاء خارج الأطر التقليدية، هو ما دفع الإدارة الأمريكية إلى اعتماد ما تصفه مصادر دبلوماسية لـ"إرم نيوز" بـ "نزع العمق"، أي تفكيك العناصر التي تمنح الطرفين قدرة على المناورة خارج الرقابة، سواء في الميدان الأمني أو في مسارات التمويل والاتصالات.
رؤية أمريكية جديدة
وقال مصدر دبلوماسي أمريكي مطّلع لـ"إرم نيوز" إنّ هناك تحركات أمريكية جديدة في الكاريبي مبنية على مراجعة حديثة للمشهد الفنزويلي وما يرتبط به من دعم خارجي.
وأشار إلى أنّ واشنطن تتابع "تنامي التنسيق بين كاراكاس وجهات مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني خلال الأسابيع الأخيرة"، معتبراً أنّ هذا التنسيق يأتي في مرحلة يعاني فيها النظام الإيراني من تقلص هوامش الحركة في الشرق الأوسط، ما يدفعه إلى استخدام منصات بعيدة لتخفيف الضغط عنه.
وأوضح أنّ التقييم الأمريكي الأخير خلص إلى أنّ "النشاط الإيراني داخل فنزويلا بات يحمل طابعاً عملياً، يهدف إلى تقديم أشكال من الدعم السياسي واللوجستي للنظام الفنزويلي في لحظات تحتاج فيها الحكومة إلى سند خارجي".
وأشار إلى أنّ هذا التقييم أدخل الملف في مسار مختلف داخل واشنطن، لأنّ أي دعم خارجي يمنح مادورو قدرة على الاعتماد على شركاء خارج الإقليم يُعدّ عاملاً يزيد من تعقيد الوضع في الكاريبي.
وأكّد أنّ الولايات المتحدة لا تنظر إلى ما تفعله طهران داخل فنزويلا باعتباره خطوة استراتيجية بعيدة المدى، إنما تعتبره تحركاً اضطرارياً من جانب إيران أكثر منه توسعاً ناجحاً، مضيفاً أنّ "التقارب بين الطرفين يعكس حاجات متبادلة أكثر مما يعكس مشروعاً متيناً".
تحرك مدروس
وتابع بالقول: "نحن نتعامل مع اختبار مباشر لأمننا القريب. عندما تسمح حكومة مادورو بوجود طرف مثل الحرس الثوري في بيئة جغرافية حساسة بهذا الشكل، فهذا يتجاوز فكرة التعاون العابر، ويدخل في صلب معادلة الردع في نصف الكرة الغربي".
وأضاف أن "الولايات المتحدة ترى أنّ أي نشاط إيراني في الكاريبي، مهما بدا محدوداً، يُقرأ من زاوية أمننا الوطني أولاً، والموقع الجغرافي وحده يكفي ليغيّر طريقة إدارتنا للملف. نحن لا نقيس هذا الوجود بحجمه، إنما بقدرته على فتح مسارات لا تخضع للرقابة، وهذا ما نعمل على إغلاقه بشكل منهجي".
وتابع موضحاً سبب التحرك في هذا التوقيت: "هناك مؤشرات اتساع في التنسيق بين كاراكاس وجهات مرتبطة بإيران، وهناك فراغات أمنية بدأت تتشكل داخل محيط فنزويلا البحري. ترك هذه التطورات دون معالجة عاجلة سيحوّل الوضع من مشكلة قابلة للاحتواء إلى تحدٍّ مستقرّ وصعب العلاج".
ولفت إلى أنه "لهذا السبب بالضبط تتحرك واشنطن بسرعة وهدوء في آن واحد. هذا استجابة مباشرة لتغيرات واقعية على الأرض، ونحن نرى أنّ التأخر في التدخل يمنح إيران مساحة لم يكن يجب أن تحصل عليها أساساً داخل محيطنا القريب".
خيارات مادورو تحت المجهر
وأضاف المصدر الدبلوماسي أنّ واشنطن ترى أنّ "النظام الفنزويلي يتحمل مسؤولية مباشرة عن السماح بقدر من الحضور الإيراني في محيطه المؤسسي".
وأوضح أنّ "القرارات التي اتخذتها كاراكاس خلال الأشهر الأخيرة فتحت أبواباً لجهات خارجية لا يملك النظام السيطرة الكاملة عليها"، وتابع: "فتح كاراكاس الباب أمام نفوذ خارجي هو أمر لا يراعي أمن المنطقة ولا استقرارها".
مادورو يعرف تماماً أنّ الباب الذي فتحه للإيرانيين لن يغلق بسهولة، وأنّ الثمن السياسي لهذه التسهيلات سيقع عليه أولاً قبل أي جهة أخرى، وفق تعبيره.
واعتبر أن "وجود هذا النوع من التعاون لا يعني أننا أمام تحالف راسخ، لكنه يشير إلى أنّ حكومة مادورو تستخدم الدعم الإيراني كرافعة سياسية وتقنية تساعدها على تجاوز الضغط الدولي"، موضحاً أنّ "واشنطن تنظر إلى هذا الاستخدام بوصفه اختياراً سياسياً واضحاً من كاراكاس، وليس مجرد تقاطع مصالح".
وقال إنّ الإدارة الأمريكية "بدأت فعلياً مرحلة جديدة من التعامل مع الملف تقوم على ما يمكن وصفه بنزع العمق، أي منع تشكل بيئة داخل فنزويلا تسمح بترسيخ أي نفوذ خارجي غير خاضع للرقابة".
وكشف المصدر أنّ الولايات المتحدة باتت تعتبر أن "مشكلة فنزويلا لم تعد داخلية بالكامل، لأنّ مادورو سمح لجهة مثل إيران بالتدخل في بيئة حساسة جغرافياً وقريبة من الحدود الأمريكية"، موضحاً أنّ "هذا التدخل لا يقع ضمن نطاق المقبول، ولا يمكن تركه دون رد".
ورجّح أن تؤدي التحركات الأمريكية إلى "تقليص قدرة إيران على استخدام فنزويلا كمنطقة تنفس سياسي أو لوجستي"، مشيراً إلى أنّ "تعزيز الوجود الأمريكي في الكاريبي خلال الأسابيع الأخيرة يحمل رسالة واضحة مفادها أنّ الولايات المتحدة لن تقبل بأن تتحول المنطقة إلى منصة لتصفية حسابات خارجية".
وختم المصدر بالقول: "ما يجري الآن هو إشارة واضحة إلى أنّ واشنطن تراقب التحركات الإيرانية والفنزويلية معاً، وأنّ أي محاولة لاستغلال الفراغ الأمني في المنطقة ستقابل بإجراءات تحد من قدرتها على الاستمرار".
تفكيك مساحات الحركة
من جانبه يرى مارك هنسون، الباحث في شؤون الأمن عبر القارات، خلال حديثه لـ"إرم نيوز" أنّ أي تحرك متصاعد لواشنطن يعكس تحوّلاً في مقاربة الولايات المتحدة تجاه التعاون الإيراني–الفنزويلي، من باب إغلاق واحدة من أكثر نقاط الضعف البنيوية في الأمن الغربي.
ويعتبر أنّ طهران تستثمر في فنزويلا كامتداد جغرافي يسمح لها بالخروج من قيود الرقابة في الشرق الأوسط، وهو ما يجعل الكاريبي، برأيه، ساحة اختبار لمدى قدرة واشنطن على منع تَشكّل "فضاءات نفوذ منخفضة التكلفة وعالية العائد" بالنسبة لإيران.
ويضيف هنسون أن رقابة واشنطن على تحركات طهران مع كراكاس تشبه "عملية تصحيح لمسار طويل من التساهل"، لأن تراكم الأنشطة المشتركة بين الطرفين خلق فراغاً سمح باندماج شبكات التمويل والاتصالات بين الحرس الثوري وبعض الدوائر الأمنية في كراكاس، وهذا ما تحاول واشنطن الآن تفكيكه خطوة بخطوة.
ويؤكد أنّ الإدارة الأمريكية باتت تنظر إلى أي حضور إيراني في نصف الكرة الغربي بوصفه اختباراً لمصداقية الردع الأمريكي، لا سيما في ظل انشغال العالم بملفات أخرى.
كذلك ينظر هنسون إلى أن المقاربة الأمريكية الجديدة تتعامل مع التعاون الإيراني–الفنزويلي باعتباره "بنية متحركة" وليس تحالفاً صلباً، وهو ما يجعل تفكيكه أسهل إذا تم استهداف نقاط الارتكاز الأساسية التي يعتمد عليها الطرفان.
ويعتبر أن واشنطن أصبحت تتعامل مع الكاريبي كما تعاملت سابقاً مع البحر الأحمر، باعتبارها منطقة صغيرة جغرافياً، لكنها تختزن خطوط تهريب وشبكات تمويل قادرة على إحداث ضرر سياسي مقارنة بحجمها.
ويشير أيضاً إلى أن الإدارة الأمريكية تدرك حساسية التدخل في نصف الكرة الغربي، لذلك تتجه إلى "تفكيك النفوذ" بطريقة تمنع كاراكاس من تحويل الضغط الأمريكي إلى ورقة ضغط داخلية. ويعتقد أنّ واشنطن توازن بين الردع وعدم الانزلاق إلى مواجهة مكلفة أو طويلة الأمد.
الكاريبي تحت المراقبة
بدورها اعتبرت الباحثة أدريانا فولكوف، المتخصصة في تحليل أنماط النفوذ العابرة للحدود، أنّ ما يحدث في الكاريبي يتعلق بما تسميه "شبكات ظل سياسية–أمنية" تستخدمها الأنظمة المعزولة لتعزيز قدرتها على الصمود أمام الضغوط.
وأوضحت خلال حديثها لـ"إرم نيوز" أنّ فنزويلا أصبحت خلال الفترة الماضية نقطة التقاطع الأكثر حساسية بين طهران وكراكاس، حيث يعمل الطرفان وفق تحليلها على تبادل المنافع، حيث تحصل طهران على موطئ قدم خارج الرقابة المباشرة، بينما يستفيد مادورو من الدعم التقني والاقتصادي الذي يعزز استمراريته.
ورأت فولكوف أنّ واشنطن لا تريد ترك هذا التمركز يتضخم إلى نموذج جديد من "الدولة العازلة" التي تخدم قوة خارجية، ولذلك تتحرك ضمن مقاربة تدريجية تقوم على الضغط السياسي، وتضييق مسارات التمويل، ورفع كلفة استمرار أي تعاون لوجستي غير خاضع للتدقيق.
وتعتبر أنّ الأيام الأخيرة أظهرت بوضوح أنّ الإدارة الأمريكية باتت تتعامل مع التعاون الإيراني–الفنزويلي كـ"ظاهرة يجب احتواؤها قبل أن تتحول إلى بنية دائمة"، وأن أي تأخر في المعالجة سيمنح الطرفين مساحة أوسع للمناورة.
وأشارت فولكوف إلى أنّ المقاربة الأمريكية الجديدة تنطلق من قناعة بأنّ التعاون الإيراني–الفنزويلي قد يتحول إلى نموذج قابل للتكرار في مناطق أخرى إذا لم يتم احتواؤه الآن.
وتُبيّن أنّ واشنطن تستهدف منع تشكل "مناطق استضافة" لأنظمة معزولة عبر العالم، لأن هذا النمط يهدد مبدأ الضغط الدولي المتعدد الأطراف، ويمنح الأنظمة الخاضعة للعقوبات فرصة للالتفاف على منظومات الردع.