تسبَّبت الرسوم الجمركية الأمريكية على الصادرات السويسرية، بزلزال سياسي في أركان الحياد السويسري، وأعادت رسم حدود القوة في عالم تحكمه المصالح لا المبادئ.
وبحسب "فورين بوليسي"، فإن إعلان الولايات المتحدة عن فرض رسوم بـ39% على صادرات سويسرا، لم يحدث صدمة اقتصادية في جنيف فحسب، بل أرسل إشارة كشفت نهاية نموذج طويل من الحياد القائم على الاستقلال السياسي والاقتصادي.
ويرى الخبراء أن سويسرا، الدولة التي لطالما اعتُبرت مثالاً على القدرة على الحفاظ على توازنها بين القوى الكبرى، وجدت نفسها فجأة عُرضة للضغط المباشر،؛ ما جعلها غير قادرة على الاعتماد على تاريخها الطويل من النزاهة المالية أو علاقاتها الاقتصادية المتينة مع واشنطن.
ويعتقد محللون أن الصدمات لم تقتصر على الاقتصاد، بل امتدت لتُعيد تعريف الاستراتيجية الوطنية السويسرية، بما في ذلك في شركات الأدوية، وهي العمود الفقري للصادرات السويسرية، حيث واجهت تهديداً مباشراً مع إعلان إمكانية رفع التعريفات على الأدوية بنسبة 100%؛ ما أجبر الشركات على فتح استثمارات كبيرة داخل الولايات المتحدة لمحاولة تهدئة البيت الأبيض.
كما أن الضرر لم يكن محصوراً في القطاع الصناعي وحده؛ إذ تسببت رسوم ترامب بارتفاع في قيمة الفرنك السويسري بشكل انعكاسي على الصادرات، واضطرت المصارف والبنك الوطني السويسري لموازنة السياسة النقدية بعناية فائقة لمنع صدمات مالية أوسع، وفي الوقت نفسه، تباطأت توقعات النمو الاقتصادي لعام 2026؛ ما وضع سويسرا أمام تحدٍ مباشر لإعادة ترتيب أولوياتها الاقتصادية والدبلوماسية.
ولمواجهة هذه الضغوط، اضطرت سويسرا إلى تبني مستوى جديد من البراغماتية في مواجهة هذه الحقبة من الإكراه الاقتصادي، حتى ولو كان ذلك على حساب مبادئها الراسخة؛ إذ بدأت بإعادة تقييم دمجها الاقتصادي الأعمق مع أوروبا، مع النظر في تسريع تنفيذ الحزمة الثنائية الموقعة مع بروكسل في ديسمبر 2024، وكانت النتائج المبكرة واعدة؛ فقد مُنحت سويسرا إعادة الانضمام إلى برنامج Horizon Europe البحثي في 10 نوفمبر؛ ما يفتح لها آفاقا جديدة للحماية الاقتصادية عبر حجم السوق وقوة التفاوض الجماعي التي لا يمكن للبلاد تحقيقها بمفردها، وتوضح المقارنة بين الرسوم الجمركية: 15% للاتحاد الأوروبي مقابل 39% على سويسرا، الفائدة الكبيرة التي يوفرها الانتماء إلى كتلة اقتصادية قوية.
كما تغيرت وجهة نظر الرأي العام السويسري تجاه تعزيز التكامل مع أوروبا، حيث أصبح الميل نحو الانحياز إلى كتلة أكبر واضحاً، وقد أيدت جماعات الأعمال الكبرى بشكل علني تعزيز التكامل التجاري مع القارة الأوروبية، متخلّية عن التحفظات التقليدية التي ميزت تاريخها الاقتصادي والسياسي، لكن مع ذلك، ما تزال السياسة السويسرية تسير بوتيرة أبطأ من الواقع الاقتصادي؛ ففي نظام الديمقراطية المباشرة القائم على الاستفتاءات، لن يتم إقرار أي اتفاق مع الاتحاد الأوروبي قبل عام 2027 على الأقل.
لكن يحذر مطّلعون من أن فقدان سويسرا حيادها الاقتصادي يهدد حيادها العسكري والدبلوماسي؛ فالتكامل الاقتصادي لا يقتصر على التجارة فحسب، بل يثير توقعات متزايدة بالالتزام بالأمن والمواقف الدبلوماسية، كما تجلى بالفعل عندما تبنّت سويسرا بالكامل عقوبات الاتحاد الأوروبي ضد روسيا عام 2022.