مسيّرة تستهدف سيارة على طريق بلدة مركبا جنوبي لبنان
تجد فرنسا نفسها بعد أكثر من عقد من الحضور العسكري والاستخباراتي في مالي أمام واقع جديد يعيد خلط أوراق نفوذها في غرب أفريقيا. فالعلاقات بين باريس وباماكو بلغت أدنى مستوياتها منذ عقود.
تصاعد الهجمات المتشددة، وانهيار الاقتصاد المالي، وتوصيات وزارة الخارجية الفرنسية لمواطنيها بمغادرة البلاد "في أسرع وقت ممكن"، جميعها مؤشرات على فشل مقاربة باريس القديمة وضرورة إعادة رسم استراتيجيتها في منطقة الساحل.
بدأت القصة عام 2013 حين أطلقت باريس عملية "سيرفال"، التي تحولت لاحقًا إلى "برخان"، بهدف مواجهة التنظيمات المتشددة التي كانت تهدد العاصمة باماكو.
لسنوات، شكلت فرنسا العمود الفقري للتحالف الدولي ضد الإرهاب في الساحل، لكن الرياح السياسية في مالي انقلبت عليها منذ انقلاب أغسطس 2020 بقيادة الجنرال آسيمي غويتا.
الانقلاب أوقف المسار الديمقراطي الهش، وبدأت معه مرحلة من التوترات مع باريس، تصاعدت بعد اتهامات متبادلة بالتدخل والوصاية. وفي عام 2022، سحبت فرنسا آخر جنودها، منهية بذلك عقدًا من التدخل العسكري المباشر.
تفاقم التوتر في أغسطس 2025 عندما اعتقلت السلطات المالية ضابطًا من جهاز الاستخبارات الخارجية الفرنسي (DGSE) في باماكو، بتهمة "محاولة زعزعة الاستقرار". الخطوة وُصفت في باريس بأنها "احتجاز سياسي وانتهاك صارخ لاتفاقية فيينا، بينما أكد الماليون أنهم يمتلكون "أدلة دامغة".
هذه الحادثة، كما كتب الصحفي بنجامين روجي في "لوموند"، أنهت آخر خيوط التواصل بين أجهزة الاستخبارات في البلدين، والتي كانت تمثل القناة الوحيدة الباقية بعد الانسحاب العسكري والدبلوماسي الفرنسي.
ردّت باريس بطرد اثنين من ضباط الاستخبارات المالية العاملين في سفارة مالي بفرنسا، وسحبت بقية عناصرها من باماكو، لتصل العلاقات إلى قطيعة غير مسبوقة.
قبل ذلك، كانت العلاقة بين البلدين قد شهدت سلسلة من الأزمات: طرد السفير الفرنسي من باماكو عام 2022، وقف المساعدات التنموية الفرنسية، انسحاب القوات الفرنسية بالكامل، إغلاق مكاتب التعاون الثقافي والعسكري.
ورغم ذلك، ظلت هناك خيوط تواصل محدودة — عبر القنصلية الفرنسية والمدارس التابعة للبعثة في باماكو — لكن حادثة اعتقال العميل أنهت حتى هذا الحد الأدنى من التعاون.
في الأروقة الفرنسية، يختلف المسؤولون حول كيفية الرد، فبينما يدعو جناح في قصر الإليزيه والـDGSE إلى التشدد "حتى لا تبدو فرنسا ضعيفة"، يرى آخرون في وزارة الخارجية أن التصعيد قد يمنح المجلس العسكري في باماكو مزيدًا من الشعبية، خصوصًا في ظل تنامي المشاعر المعادية لفرنسا.
في 2022، بعد إنهاء تعاونها الأمني مع باريس، اتجهت مالي نحو التحالف مع روسيا ومجموعات "فاغنر" شبه العسكرية، لكن هذه التجربة لم تحقق نتائج تُذكر.
الخبير الأمني لوران ليرنر صرّح لصحيفة "لو فيغارو" قائلاً: "منذ رحيل القوات الفرنسية، حاولت مالي بناء نموذج أمني بديل يعتمد على الروس، لكنه أثبت فشله الذريع ميدانياً".
ويرى الباحث مدير مركز تمبكتو للدراسات الاستراتيجية في السنغال باكاري سامبي، أن الدولة المالية "فقدت السيطرة على معظم أراضيها، وتركّز جهودها حول العاصمة فقط لحماية النظام العسكري"، مضيفاً أن "ثقة السكان بدأت تتآكل مع استمرار الفوضى الأمنية".
من جانب آخر، يشير الباحث الفرنسي غيوم ليرنر إلى أن النموذج الأمني الذي تتبناه مالي "بديلٌ فاشل"، موضحًا أن القوات الروسية التي حلت محل الفرنسيين لم تنجح في كبح التوسع للجماعات المتشددة.
منذ سبتمبر 2025، تفرض جماعات مرتبطة بالقاعدة حصارًا خانقًا على واردات الوقود نحو العاصمة، ما أدى إلى شلل اقتصادي واحتجاجات واسعة.
وتحذر مديرية الاستخبارات الخارجية الفرنسية (DGSE) من أن أفريقيا أصبحت "المركز العالمي للتشدد"، إذ إن عدد العمليات والهجمات في القارة تجاوز نظيره في الشرق الأوسط، وإن كثيرًا من القيادات المتشددة باتت أفريقية المنشأ.
وتحاول باريس الآن كسر الجمود عبر وساطات إقليمية، لكن المحللين، مثل الدبلوماسي السابق نيكولا نورماند، يشيرون إلى أن فرنسا فقدت أدوات الضغط التقليدية: المساعدات، التدريب، وحتى القنوات الثقافية.
ويقول نورماند: ما لم تُعِد باريس صياغة رؤيتها في الساحل — من الهيمنة إلى الشراكة — فلن تستعيد مصداقيتها".
ورغم هذا التدهور، يؤكد كثير من الخبراء أن القطيعة الكاملة مستحيلة. فهناك أكثر من 200 ألف فرنسي من أصول مالية، وهناك تداخل اقتصادي وثقافي يصعب فصله.
ويعتقد مسؤول مالي سابق أن "العلاقات ستُعاد في النهاية؛ لأن التاريخ والجغرافيا والمجتمع أقوى من السياسة".
الواقع أن باريس لم تعد تبحث عن عودة القوات بقدر ما تسعى إلى إعادة تعريف دورها في أفريقيا، فبدل الاعتماد على القوة العسكرية، تتجه نحو دعم المجتمع المدني والتنمية المحلية ومشاريع التعليم، وهو ما تراه المؤسسات الفكرية الفرنسية "الطريق الوحيد لاستعادة النفوذ المفقود".
وفي ظل تمدد التنظيمات المتشددة وفشل البديل الروسي، يبدو أن فرنسا ومالي — رغم كل الجفاء — ستجدان نفسيهما مضطرتين للعودة إلى الحوار، لا بدافع الودّ، بل من منطلق الضرورة الأمنية والمصالح المشتركة.