يُشير خبراء وباحثون سياسيون فرنسيون إلى أن مسألة "الضمانات الأمنية" المقدمة لأوكرانيا بعد توقف الحرب باتت تشكل المحور الأبرز في النقاشات الأوروبية والأطلسية، خصوصاً مع تصاعد القلق من تراجع مستوى التزام الولايات المتحدة تجاه كييف.
وأكد الخبراء أن القادة الأوروبيين، رغم كثافة التصريحات التي تصف دعمهم بأنه "ثابت" و"لا يتزعزع"، يدركون أن مستقبل الحرب والسلام في شرق أوروبا لا يمكن أن يُحسم من دون مشاركة فعالة من واشنطن.
ويأتي هذا الجدل في وقت تستعد فيه العواصم الغربية للقاء مهم في واشنطن، يجمع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وعدد من القادة الأوروبيين، وعلى رأسهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي شدد على أن الضمانات الأمنية ستكون في صميم المباحثات مع الجانب الأمريكي.
ويرى الخبراء أن أوروبا تجد نفسها أمام اختبار تاريخي: إما أن تبرهن على قدرتها على بناء منظومة دفاعية مستقلة أكثر صلابة، أو تبقى عالقة في دائرة الارتهان للتقلبات السياسية الأمريكية، خاصة مع تصريحات ترامب الأخيرة التي استبعد فيها انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو).
هذا المشهد، بحسب الباحثين، يعكس صراعاً أعمق حول موازين القوى العالمية ومستقبل الأمن الأوروبي، إذ تخشى العواصم الغربية أن تتحول أي تسوية سياسية مع موسكو إلى مجرد هدنة هشة، ما لم تدعمها ضمانات قوية وملزمة.
القادة الأوروبيون، من باريس إلى برلين وبروكسل، يكررون مفردات مثل "لا يتزعزع"، "لا ينكسر"، و"موثوق"، للتأكيد على التزامهم بحماية أوكرانيا في مرحلة ما بعد الحرب. غير أن هذه الالتزامات، رغم قوتها الرمزية، تصطدم بعامل رئيس: موقف الولايات المتحدة. فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون شدد، قبل مغادرته إلى واشنطن للقاء نظيره الأمريكي رفقة فولوديمير زيلينسكي وعدد من القادة الأوروبيين، أن "مدى مساهمة أمريكا في هذه الضمانات" سيكون جوهر المحادثات.
من جانبه، قال أستاذ العلوم السياسية الفرنسي، المتخصص في العلاقات الدولية والدفاع، والمدير السابق لمعهد الأبحاث الاستراتيجية فريدريك شاريلون لـ"إرم نيوز" إن النقاش حول الضمانات الأمنية يكشف عن "لحظة مفصلية" في تاريخ الاتحاد الأوروبي.
وأوضح شاريلون أن الأوروبيين "لطالما اعتمدوا على المظلة الأمريكية منذ الحرب الباردة، لكن حرب أوكرانيا أظهرت أن أمن القارة لا يمكن أن يبقى مرهوناً بالتقلبات السياسية في واشنطن".
وأضاف أن أي تردد أمريكي سيدفع أوروبا إلى بناء منظومة أمنية أكثر استقلالية؛ مما قد يفتح الباب أمام تعزيز مشاريع الدفاع المشترك وتوسيع القدرات الصناعية العسكرية الأوروبية.
وحذر أستاذ العلاقات الدولية في جامعة باريس، جان بول هيرفي، في تصريح لـ"إرم نيوز" من تكرار ما حدث بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014.
وأضاف: "إذا لم تكن الضمانات الأمنية مدعومة بآليات ردع واضحة، فإن موسكو قد تعتبر أي اتفاق سلام مجرد فرصة لإعادة ترتيب صفوفها والعودة للحرب لاحقاً".
وشدد هيرفي على أن المطلوب هو "آلية التزام قانوني أو عسكري غربي مباشر، وليس مجرد بيانات سياسية"، حتى يتم ردع روسيا بشكل فعلي عن محاولة تكرار السيناريو.
وأشار الباحث السياسي الفرنسي إلى أن التصريحات الأخيرة لدونالد ترامب، التي استبعد فيها انضمام أوكرانيا إلى الناتو، تضعف موقف كييف وتجعل موسكو أكثر جرأة. ويضيف أن "القلق الأوروبي يكمن في أن واشنطن قد تتراجع عن التزاماتها في حال عودة ترامب إلى البيت الأبيض، وهو ما قد يترك أوروبا وحيدة في مواجهة روسيا".
ويرى أن هذا القلق هو ما يفسر سعي الأوروبيين إلى صياغة ضمانات مستقلة، لكنهم في الوقت ذاته يدركون أن أي توازن أمني في القارة لا يمكن أن يتحقق من دون مشاركة أمريكية فعلية.
أما الباحثة كلوي مارتان، المتخصصة في قضايا شرق أوروبا، فترى في تصريحات لـ"إرم نيوز" أن أمن أوكرانيا لا يتعلق فقط بكييف بل بمستقبل الاتحاد الأوروبي ذاته.
وأضافت: "إذا تُركت أوكرانيا مكشوفة بعد الحرب، فإن مصداقية الاتحاد الأوروبي كقوة جيوسياسية ستتعرض لضربة قاسية".
وأكدت أن "موسكو لا ترى أوكرانيا كدولة فحسب، بل كبوابة للتأثير في كل أوروبا الشرقية، ومن ثم فإن أي ضعف في الضمانات الأمنية قد يهدد استقرار كامل القارة".